بقلم: نضال منصور – موقع الحرة
الشرق اليوم- أقل من شهر تفصل العراق عن انتخابات البرلمان المُبكرة، والتي يُراهن أن تُحدث تحولات في الحكم السياسي للبلاد، وبعد أسابيع قليلة من الاحتفالات بمرور 100 عام على تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ترافقت مع مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي أخرج بغداد من عزلتها، وكرسها لاعبا سياسيا.
الانتخابات المُبكرة تجيء بعد عامين على حراك تشرين، وتُعتبر ثمرة من ثماره، وأحد مطالبه التي هتف بها المحتجون في ميادين التظاهر، وقدم لأجلها الشباب والشابات أرواحهم.
حراك تشرين نقطة تحول في تاريخ العراق، صحيح لم يُحقق الكثير من مطالبه، لكنه لفت الأنظار إلى أهمية استعادة الدولة العراقية المختطفة، وانتشال البلاد من الخراب والفساد، وبناء الدولة العابرة للهويات المذهبية، والتصدي للديكتاتوريات التي تدثرت برداء الطائفية، وزادت عن مصالح الخارج قبل الداخل.
الأسئلة عن مستقبل العراق لم تتوقف لحظة، وخلال ثلاثة أيام من الحوارات في ملتقى الرافدين، كانت الإجابات تتوارى أحيانا، والأزمات تتناسل، وتبدو الحلول مستحيلة، وأكثر تعقيدا، وبقي الاشتباك والتدافع في الآراء سيد الموقف بين القادة السياسيين في العراق.
في ملتقى الرافدين كل المسؤولين في الدولة العراقية حضروا، منهم من كان يرتدي بزة، ومنهم من كان يضع العمامة، وبعضهم لم يخلع لباس المليشيات، وجميعهم كانوا يرون أنفسهم حماة للعراق حتى وإن كانوا متهمين بالشارع بدماره وسرقته.
عناوين الجلسات في الملتقى تُقدم صورة لحال العراق، فلا يصدمك أن تُناقش إحدى الجلسات عنوان “العراق في مئة عام.. مسارات مضطربة وأزمات متجددة”، أو “العراق والمجتمع الدولي.. علاقات التعاون والمصالح المشتركة”، وكذا “منظومة الأمن والدفاع.. المهمات والتحديات”، ولم يغب حراك تشرين، ومسارات التغيير السياسي عن النقاش، والحشد الشعبي كان حاضرا بقوة، بالإضافة إلى مكافحة الفساد، عدا عن لقاءات القادة والحوار معهم، والشجون التي تُثيرها إجاباتهم.
كثيرة هي القضايا والاستنتاجات التي أثارها ملتقى الرافدين، وربما يتقدمها أن الانتخابات المُقبلة لن تُغير في المعادلات السياسية القائمة، والكتل والأحزاب السياسية المُهيمنة ستبقى تقود المشهد، والتعديلات التي أدخلت على قانون الانتخاب ربما تسمح بحضور قليل للمستقلين، وقد يكون بعضهم ليس سوى واجهات للكتل والتيارات السياسية القائمة، وحتى “حراك تشرين” الذي قاد التحول السياسي، ودفع الثمن باهظا، فإن احتمالات تأثيره وحضوره تحت قبة البرلمان محدودة.
دائرة التنافس لن تتغير جذريا، خاصة بعد عودة الزعيم مقتدى الصدر عن مقاطعة الانتخابات، ومن ظل مقاطعا حتى الآن لن يُغيّر بالمشهد السياسي، وأبرزهم المنبر العراقي بقيادة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، وجبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلق، إضافة للشيوعيين.
سيعود التيار الصدري “سائرون” إلى الواجهة في الانتخابات، وستبقى المنافسة محصورة بكتل “الفتح” بقيادة هادي العامري، و”النصر” بزعامة حيدر العبادي، و”دولة القانون” ورمزها نوري المالكي، و”تحالف القوى الوطنية” بقيادة عمار الحكيم، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة نيجيرفان بارزاني، ولن تكون هناك مفاجآت حسب كل التقديرات.
القضية التي يطرحها الجميع، ولا يُغادر مربعها الأكثرية، هي تغليب الهوية المذهبية على الهوية الوطنية، فالنقاش عن دور المكونات الطائفية في إدارة شؤون البلاد والسلطة مسموع، ويتقدم الأبجديات السياسية، والغائب الأبرز عن الحوار العراق الموحد، ولهذا فإن القيادي عمار الحكيم يطرح بقوة شعار “الدولة واللا دولة” في خضم الانتخابات القادمة، ويدعو لمشاريع وطنية عابرة للحكومات، ويُجاهر بالقول “إن التشيع طائفة وليست حزبا سياسيا”، ولا يبتعد عنه كثيرا وزير الخارجية الأسبق، هوشيار زيباري، حين يؤكد أن الدولة تُبنى بالمشاركة وليس التفرد والاحتكار، ويُجدد الدعوة لقيادات وطنية عابرة للمكونات المذهبية، وتقاسم السلطة والثروة على أسس ديمقراطية.
لا تبدو قضية تفصيل السلطة على أسس مذهبية بعيدة عن أصابع التدخل الخارجي في العراق، ولهذا فإن الحوار لم ينقطع في جلسات الملتقى عن التدخلات الخارجية، ووجهت أصابع الاتهام إلى إيران أكثر من غيرها، ولم تتوقف التصريحات والتلميحات إلى ربط بعض الأحزاب السياسية بطهران، وظل الحشد الشعبي تحت قصف الاتهامات، ولم يُخفِ البعض تورطه باستهداف وتصفية المتظاهرين في حراك تشرين، وصولا للقول “السعودية كانت مع الحراك، وإيران كانت ضده”.
لا تسلم الكتل والأحزاب السياسية شيعية كانت أم سنية، أم كردية من مسؤولية ما وصل له العراق من تآكل هويته الوطنية للحفاظ على حكمهم ومغانمهم التي يضمنها تقاسم السلطة، وهو ما دفع عمار الحكيم للتحذير من “لبننة” الوضع السياسي في العراق.
على هامش سلطة الطوائف تتكرس ظاهرة الميليشيات المسلحة في العراق في تحدٍ واضح لإرادة الدولة، وأكبر مثال صارخ لها ظاهرة الحشد الشعبي الذي يضم أكثر من 169 ألف مسلح انضوت بعد الحرب ضد “داعش” تحت مظلة القوات المسلحة العراقية، ورغم ذلك فإن الأسئلة عن ولائها وانتمائها السياسي لم تحجبها وتشوش عليها إجابات قادة الحشد، فالح الفياض، وهادي العامري.
الفياض في الحوار معه لم يوارب في أجوبته، فهو رغم تبعيته للقوات المسلحة لم ينكر دعمه لقائمة انتخابية، ويُعلن أنه سيرفض أوامر القائد العام للقوات المسلحة إذا لم تتوافق مع أوامر المرجعية الدينية، والأهم والأخطر أنه يرى أن الحشد الشعبي “فوق الدولة” إن جاز الوصف والتعبير، فهو يعزو الفضل للحشد لبقاء الدولة وعدم انهيارها، وهو من يمنع الانقلاب عليها.
أكثر القضايا الإشكالية التي لم تجد حلولا الفساد، فأزمة العراق كانت بتزاوج السلطة والمال، والوجه السائد للسلطة كان طائفيا بامتياز، والفساد ظل ملازما للثروة والمال.
الأرقام عن الفساد في العراق مُرعبة؛ فتقرير لجنة النزاهة النيابية يتحدث عن 350 مليار هُربت من البلاد منذ عام 2003، أي ما يُقارب 32 بالمئة من إيرادات النفط، وأن 6 آلاف مشروع وهميّ كانت مؤشرا وعنوان آخر للفساد.
يعترف رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي أن الفساد سبب الانهيار والتراجع، ويقول محاربة الفساد منظومة، وليست حربا على الفيسبوك، ويؤيد هذا الكلام عمار الحكيم بالتأكيد على أن مكافحة الفساد ليست كلاما، وإنما كيف نبني دولة تمنع الفساد من الوصول للمال العام، مُعترفا أن الكتل السياسية تحمي الفساد، وهذا هو الأخطر.
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، حاول أن يضع حدا للتدخل الخارجي في بلاده، فأنْ يُصبح العراق ساحة لتصفية الحسابات أصبح خطا أحمر، وما عاد مقبولا، وإن نجحت مقاربة الكاظمي في تحييد دول الجوار، فإن المهمة المقبلة بعد الانتخابات إيجاد حلول لأزمات الداخل المستعصية، والأبرز خارطة طريق لبناء الدولة الوطنية، وهذا يعني سلطة تعلو على الطوائف والمذاهب، ودستور يسمو على أي مرجعية أخرى، وقوانين تضمن محاسبة الفاسدين، وتصون حقوق الناس، وجيش لا يُزاحمه مليشيات -مهما كانت مسمياتها- تدين بالولاء لدولة غير العراق.