الشرق اليوم- قد يكون أسامة بن لادن أكبر فائز من تورط الولايات المتحدة في أفغانستان طوال عقدين من الزمن، فقد كان الاعتداء الذي أطلقه بداية تحوّل كارثي في التاريخ الأمريكي، فاشتقّ غزو العراق من الغزو الأمريكي لأفغانستان، وسرعان ما دخل هذان الصراعان في خانة “الحروب الأمريكية الأبدية”.
حقق بن لادن فوزاً جيوسياسياً كبيراً غداة حشد عشرات المقاتلين بناءً على استثمار أولي متواضع، فكان اعتداء 11 سبتمبر نسخة من هجوم “بيرل هاربور” بالنسبة إلى الجيل الأمريكي الراهن، وما كانت أي قوة عظمى لتردّ على هجوم مماثل ضد أراضيها إلا عبر شن الحرب، فقامت إدارة الرئيس جورج بوش الابن بواجبها، وشاركت سريعاً في حرب ضرورية ثم بدأت المأساة الأمريكية المصيرية في أفغانستان.
قادت حملة بوش لبناء الأوطان في الخارج الولايات المتحدة من كابول إلى بغداد، حيث أسفر غزو العراق في عام 2003 عن كارثة جيوسياسية حقيقية، وارتكز ذلك الغزو على فكرة إنقاذية مفادها أن الأمريكيين يقومون بالصواب ويحققون مشيئة الله، لكن مات مئات آلاف الناس نتيجة تلك الحملة.
في عام 2008، ترك بوش مهمة حل المشكلة لخلفه باراك أوباما، فقد كان أوباما مبتدئاً في مجال السياسة الخارجية مثل بوش، فواجه مصاعب كبرى خلال عهده الممتد على ولايتَين رئاسيتَين، وتفاقمت نتائجه السيئة بسبب ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، لقد فشل أوباما حين حاول إرسال المزيد من الجنود مع أنه حدّد موعد انسحابهم.
ثم ترك أوباما ملف أفغانستان لخلفه دونالد ترامب، وهو الرئيس الثالث الذي يفتقر إلى الخبرة اللازمة في شؤون الحرب والسلم، ونتيجةً لذلك، اتفق ترامب في 20 فبراير 2020 مع حركة “طالبان” على إلغاء الوجود الأمريكي من أفغانستان في موعد محدد، وتحديداً بحلول مايو 2021، واعتبر الكثيرون هذه الخطوة شكلاً من “الاستسلام”.
بعد هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، اضطر جو بايدن للتعامل مع ملف أفغانستان، ألا يمكن اعتبار قرار بايدن بالانسحاب شكلاً من الاستسلام أيضاً؟ في مطلق الأحوال، يمكن أن يخسر أي طرف الحرب بأسوأ الطرق أو أفضلها كما قال مكيافيلي يوماً.
اليوم، من المبرر أن يظن البعض أن بايدن بدأ يخسر الحرب ويتقبل الهزيمة بأفضل الطرق الممكنة، فهو يفعل ذلك بكل وعي، فيتقبّل الاضطرابات الأخلاقية الداخلية التي تترافق مع مهام أي رئيس، وفي غضون ذلك، تُرِكت أفغانستان والشعب الأفغاني لمصيرهم. في شؤون الحرب والسلم، يصعب تقييم الأحداث المؤثرة، لا سيما بعد إسدال الستارة على مرحلة مفصلية بفترة قصيرة.
ما نتيجة الانسحاب الأمريكي المرتقبة إذاً؟ لن نعرف الجواب قبل مرور أشهر أو حتى سنوات عدة، ولا مفر من التشكيك بآراء من يصرّون على اعتبار الانسحاب من أفغانستان خطأً جيوسياسياً فادحاً،
لا سيما في عالمٍ تتوقف فيه السياسة الخارجية لجميع الحكومات على السياسات الخارجية التي تختارها كل حكومة أخرى.
يعتبر جزء من المحللين الخارجيين، بعضهم في موسكو وبكين، أن قرار بايدن منطقي عند تقييمه نسبةً إلى المصالح الوطنية الأمريكية، لكنهم يشعرون بالقلق من أي عواقب محتملة على بلدانهم.
كان خطاب بايدن حول هذا الموضوع طويلاً جداً، وقد خصّص الجزء الأول منه لعرض إحصاءات يعرفها الجميع، لكنّ النصف الآخر من الخطاب عَكَس رفضاً قوياً للنقاد واتّسم بالبساطة والإقناع، فقد قال الرئيس الأمريكي: “أنا اتخذتُ هذا القرار وأتحمّل مسؤوليته”، لكن ذلك الخطاب كان يفتقر إلى جاذبية رجل الدولة، والرؤية القوية التي تضمن حصد الإجماع على المدى الطويل، والمهارات الخطابية التي يُفترض أن يتمتع بها أي زعيم قوي في المراحل التاريخية المفصلية.
بايدن ليس بارعاً في إلقاء الخطابات ولا بأس بذلك، ففي آخر ثلاثين سنة، لم تنتج الولايات المتحدة عدداً كبيراً من رجال الدولة الحقيقيين، لا في معسكر الديموقراطيين ولا الجمهوريين… على أمل أن يثبت بايدن أنه كان محقاً في مقاربته!