بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم – تأتي الأنباء من المغرب بمفاجأة: لقد خسر حزب “العدالة والتنمية” الحاكم ما يقارب 90% من الأصوات التي حصل عليها في دورتين انتخابيتين سابقتين، وليس في ذاكرتي شخصياً حزب في السلطة يخسر بهذه النسبة. إلا أن التجربة المغربية تزيدنا حيرة في موضوع أوسع وهو “دور الأحزاب المعتمدة على الإسلام الحركي” في الساحة العربية، وقدرتها على الإنجاز. البعض قال إن التجربة المغربية هي نهاية تلك الحركة، بعدما فقدت بريقها في السودان وتونس ومصر وأخيراً في المغرب. ذاك تحليل ربما عاطفي أكثر منه موضوعياً، والبعض أيضاً، عاطفياً، فسّر الخسارة بأن الحزب وهو في الحكم “طبّع” مع إسرائيل، ذلك تصور ليس له علاقة بالواقع، أما قيادة الحزب، وعلى استحياء، فقالت إن هناك “عدم انتظام في العملية الانتخابية”، وأن “المال السياسي” هو الذي لعب الدور في فوز الأحزاب المنافسة.
من المهم أن يخضع المشروع المغربي إلى التحليل العقلاني لأنه لافت. الموضوع في الأساس هو إدارة الدولة الحديثة، وواضح من تجربة طويلة أن الدولة لا يمكن أن تُدار في عالم اليوم بالأيديولوجيا بل بالسوسيولوجيا إن صح التعبير، أي بفهم متطلبات المجتمع الحديث والاستجابة لها. لم تكن السياسة الخارجية محط نقاش في الحملة الانتخابية المغربية، كان التركيز على الإدارة وكفاءة العمل في الدولة لتحقيق الحد الأدنى من مطالب الجمهور الواسع.
عدد سكان المغرب نحو 37 مليوناً ويحتل الرقم 40 في الترتيب العالمي، وهو حجم ليس بقليل نسبة إلى الموارد المتاحة للدولة المغربية. أما إذا استعرضنا برنامج الأحزاب المنافسة التي فازت بعدد كبير من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، فسوف نجد موقع حزب “التجمع الوطني للأحرار”، وهو الذي حاز الأغلبية من المقاعد (97)، يخبرنا بأولوية الموضوعات الاقتصادية لمشروعه السياسي والشعار “نستأهل أفضل”، ويفصل في مشروعه الاجتماعي “تعليم أفضل وصحة أفضل والمهم إدارة أفضل” لما لمركزية الإدارة في الدولة الحديثة من أهمية، ويتهم حزب “العدالة و التنمية” بعدما أمضى عقداً كاملاً في السلطة (2001 – 2021) بأنه قدم أهل “الثقة” في اعتماده الإدارة على أهل “الخبرة”، والخطأ وقع فيه حكم الإخوان القصير في مصر والطويل في السودان، وارتكب الخطأ نفسه في تونس بصورة أقل.
أما الحزب الثاني الذي حصل على أعلى الأصوات فقد كان حزب “الأصالة والمعاصرة” (82 مقعداً)، وعند فحص برنامجه المنشور على صفحته في الشبكة الدولية، نرى أنه منهمك بما يسميه “الديموقراطية الاجتماعية”، أي ربط التنمية بتعزيز الفهم الديموقراطي والعمل الجماعي من أجل الخير العام، الحزب الثالث حزب “الاستقلال”، وقد حصل على 78 مقعداً، هو حزب قديم تأسس رسمياً عام 1944، وناضل من أجل استقلال المغرب، ويرتبط اسمه بعلال الفاسي، الرجل الوطني المعروف، وهو حزب وطني وسطي.
النتيجة العامة للانتخابات المغربية هي الابتعاد عن الشعارات والعودة إلى الوسط الذي يعتمد على قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي. حكم المغرب ليس عملية سهلة، ولكنه امتاز بمرونة شديدة في التكيف مع المتغيرات. وكان لافتاً في قمة حراك ما يُعرف بـ”الربيع العربي” أن قدمت القيادة المغربية دستوراً جديداً هو دستور 2011 الذي قفز على معطيات دستور 1962 وتعديلاته المتعددة، الدستور الأخير يعطي المغاربة هامشاً واسعاً من المشاركة السياسية، والحكومة المنبثقة من الانتخابات سقف تصرف أوسع، واحتفظ في الوقت نفسه بمفتاح العمل السياسي للمؤسسة الملكية التي ليست مكان نزاع بين معظم تيارات النشاط السياسي المغربي. ربما تتألف الحكومة من ائتلاف ثنائي أو ثلاثي بين الأحزاب الكبيرة، إلا أن التحدي ليس في الفوز بالانتخابات، فقد تبين أن الشعب المغربي يتمتع بوعي اجتماعي عال يجعله يغيّر “الأحصنة” متى ما وجد أنها أثقلت بالبيروقراطية والاستنسابية وبعدت عن تحقيق طموحات الأغلبية المشروعة، وهو رهان سوف ينظر إليه الجميع في الجوار بعين الرغبة في النجاح والخوف من الفشل. إلا أن التفكير في أن الإسلام الحركي في منطقتنا قد أزف على النهاية يوجب النظر في هذا القول، لأن الأرضية التعليمية والثقافية ما زالت مهيأة لتلقى التشدد، ما لم يُبذل جهد في تجويد التعليم وترقيته من جهة، والإنصات لمتطلبات الناس من جهة على قاعدة الإدارة الكفوءة. ما زالت تجارب العرب الديموقراطية تراوح مكانها، فتطبيق الديموقراطية الانتخابية – وهي تعاني مشكلات في بيئتها الغربية – يعاني أكثر في فضائنا، فقد فشلت في إنتاج “الجدارة السياسية” التي تعني أن السلطة السياسية لدى الأشخاص يجب أن تتطابق مع القدرة والفضيلة معاً، وتحقق العدالة والأمن والإنجاز، والأكثر حظاً في القدرة الإدارية هم الأجدر بتمثيل الناس، معظم تجاربنا يلعب المال والطائفة والقبلية الدور الأهم فيها، وتفرز قيادات شعبوية وعاجزة.