الشرق اليوم- الدرس الحقيقي الذي يجب أن تستخلصه البلدان الأخرى من أروقة البيروقراطية الاقتصادية في واشنطن هو أن علم الاقتصاد يدعم نصائح سياسية مختلفة لظروف مختلفة، ومثلما تُنتج الظروف المتغيرة والتفضيلات السياسية في الولايات المتحدة علاجات جديدة، من الأفضل للبلدان الأخرى أن تستهدف مشاكلها وقيودها الخاصة.
في غضون بضع سنوات فقط، تغيرت المحادثات بشأن السياسة الاقتصادية كليا في الولايات المتحدة، إذ استُبدلت النيوليبرالية، أو إجماع واشنطن، أو أصولية السوق- يمكنك أن تسميها ما شِئت- بشيء مختلف تماما.
وفي سياسة الاقتصاد الكلي، أدت المخاوف من الديون والتضخم إلى تفضيل سياسة الإفراط في تحفيز الاقتصاد والتقليل من المخاطر على سياسة استقرار الأسعار، وفيما يتعلق بالضرائب، فإن الإقرار الضمني في سباق عالمي نحو الهاوية قد انتهى، كما أن وضع حد أدنى عالمي لمعدل الشركات المتعددة الجنسيات قيد التنفيذ، أما ما يتعلق بالسياسة الصناعية، التي لم يكن من الممكن حتى وقت قريب ذكرها بطريقة رسمية، فقد عادت لتأخذ بالثأر.
ومازالت القائمة طويلة، ففي حين كانت لفظتا (تحرير ومرونة) الكلمتين الرنانتين في سياسة سوق العمل، فإن الحديث الآن أصبح يدور حول الوظائف الجيدة، ومعالجة الاختلالات في القدرة على المساومة، وتمكين العمال والنقابات، وكان يُنظر إلى شركات التكنولوجيا الكبرى والمنصات على أنها مصدر للابتكار والفوائد للمستهلكين، أما الآن فهي تعتبر احتكارات تحتاج إلى تنظيم وربما إلى تفكيك، وكانت السياسة التجارية تدور حول التقسيم العالمي للعمل والسعي إلى الكفاءة؛ أما الآن فهي تتعلق بالمرونة وحماية سلاسل التوريد المحلية.
إن بعض هذه التغييرات هي تعديلات ضرورية للتكيف مع صدمة كوفيد19، وقد تكون أيضا بمنزلة التحول الحتمي الناتج عن فترة طويلة من ارتفاع مستوى عدم المساواة، وانعدام الأمن الاقتصادي، وقوة السوق المركزة في الاقتصاد الأمريكي، ولكن الفضل يعود أيضا إلى الرئيس جو بايدن، الذي جلب فريقا اقتصاديا جديدا إلى واشنطن، وسارع إلى تأييد الأفكار الجديدة على الرغم من انتقادات المتمرسين.
وكان لنموذج أصولية السوق الذي شكل سابقا السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية منذ ثورة ريغان- تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي أصل فكري سابق، وطُور هذا الأخير في قاعات الأكاديمية، ونشره المثقفون الشعبيون مثل ميلتون فريدمان.
وهذه المرة، يحاول الاقتصاديون الأكاديميون جاهدين اللحاق بالركب، ورغم أن حماس السوق الحرة قد تضاءل بين الاقتصاديين، فإنه لم تكن هناك تطورات برنامجية في الأسلوب المحافظ لـ”كينز” أو “فريدمان”، وكان سيصاب صانعو السياسة ممن كانوا يتطلعون إلى الاقتصاديين للحصول على حلول بالجملة تتجاوز الإصلاح بخيبة أمل.
ومع ذلك، يبدو واضحا أن الاقتصاديين قد تأثروا بالمزاج المتغير، فعلى سبيل المثال، في المعتكف السنوي لمحافظي البنوك المركزية المنعقد في جاكسون هول، في ولاية وايومنغ، نهاية أغسطس، قدم فريق من الاقتصاديين الأكاديميين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة هارفارد ونورث وسترن، وجامعة شيكاغو ورقة توضح أن حدوث قفزة مؤقتة في التضخم يمكن أن يكون شيئا جيدا، وعندما تكون الأجور متصلبة أثناء اتخاذها لمنحى الهبوط- فهي لا تنخفض بسهولة كما ترتفع- يمكن تسهيل التغيير الهيكلي من خلال زيادة الأجور في أجزاء الاقتصاد التي تشهد ارتفاعا في الطلب. وعلى الرغم من أن هذا قد يتسبب في تجاوز التضخم الكلي لهدف البنك المركزي، فإنه قد يكون مرغوبا فيه من حيث إتاحته لتعديل الأجور النسبية في مختلف القطاعات.
كذلك، كتب ديفيد أوتور من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مؤخرا أن نقص العمالة في الولايات المتحدة التي يشكو منها العديد من أرباب العمل- الوظائف الشاغرة بسبب عدم وجود عدد كافٍ من العمال المستعدين لقبول الوظائف المعروضة- هو في الواقع أمر جيد، ويقول إن المشكلة تكمن في أن الاقتصاد الأميركي ينتج الكثير من الوظائف “السيئة” بأجور منخفضة ومزايا قليلة، وإذا كان الوباء قد جعل العمال الآن أكثر تطلبا وانتقاء، فأرباب العمل هم من يتعين عليهم التكيف. وفي النهاية، لا يتطلب كل من الإنصاف والإنتاجية المزيد من الوظائف فحسب، بل يتطلب وظائف عالية الجودة.
وتتمثل إحدى مزايا كتابات الاقتصاديين الأكاديميين في أنها توضح الطبيعة العرضية لأولويات السياسة الحالية في الولايات المتحدة، وتوضح دراسة جاكسون هول، على سبيل المثال، أن التضخم المؤقت هو حل مقبول فقط في ظل ظروف معينة: عندما يكون التعديل القطاعي مدفوعاً بالتغيرات في طلب المستهلك، وعندما لا يمكن للأجور أن تنخفض، وفي حال لا يعوق الحافز النقدي التغيير الهيكلي عن طريق زيادة الربحية إلى حد كبير في القطاعات التي تحتاج إلى تقليص. وفي المقابل، فإن الأجور في البلدان النامية مرنة للغاية في العمالة غير الرسمية، كما أن التوسع في القطاعات الحديثة تعوقه قيود جانب العرض، وفي ظل هذه الظروف، فإن احتمال أن تكون الحوافز النقدية أو المالية فعالة ضئيل جدا.
ومع ذلك، هناك خطر يتمثل بإساءة فهم البلدان الأخرى للتغييرات في الولايات المتحدة، وأن صانعي السياسات في أماكن أخرى سيقلدون تقليدا أعمى العلاجات الأميركية دون الالتفات إلى خصوصيات ظروفهم الخاص، وعلى وجه الخصوص، يتعين على البلدان النامية التي تفتقر إلى الحيز المالي، وتضطر إلى الاقتراض بالعملات الأجنبية أن تحذر من الاعتماد المفرط على تحفيز الاقتصاد الكلي.
وتكمن المشكلة الحقيقية التي تعانيها العديد من البلدان النامية اليوم في أن نموذج التصنيع التقليدي الموجه نحو التصدير قد استنفد قوته، وتتطلب عملية توليد وظائف جيدة ومنتجة نموذجا تنمويا مختلفا، يركز على الخدمات، والسوق المحلية، وتوسيع نطاق الطبقة الوسطى، ولا يمكن حل إخفاقات السوق أو الحكومة التي تمنع التوسع في فرص العمل الأكثر إنتاجية في الخدمات إلا من خلال العلاجات الهيكلية.
إننا نرحب بإعادة النظر في السياسة الاقتصادية في أروقة البيروقراطية الاقتصادية في واشنطن، ولكن الدرس الحقيقي الذي يجب أن تستخلصه البلدان الأخرى منها هو أن علم الاقتصاد، بصفته علما اجتماعيا، يدعم نصائح سياسية مختلفة لظروف مختلفة، ومثلما تُنتج الظروف المتغيرة والتفضيلات السياسية في الولايات المتحدة علاجات جديدة، من الأفضل للبلدان الأخرى أن تستهدف مشاكلها وقيودها الخاصة.