بقلم: د. السيد ولد أباه – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – سألني في الرباط أحد المراقبين من البعثات الغربية التي حضرت الانتخابات الأخيرة عن توقعاتي لنتائج الاقتراع قبيل إعلانها، فأجبته أني أتوقع أن يرجع المغرب إلى خارطته السياسية التقليدية، بعد سنوات عشر من تقدم «حزب العدالة والتنمية» في الموازين الانتخابية وتصدّره للعمل الحكومي.
لقد بنيت توقعاتي التي أثبتتها الأرقام الرسمية على أن الأحزاب التقليدية المغربية استعادت عافيتها بعد سنوات من التراجع الناتج عن انسحاب جيل الحركة الوطنية المؤسس لهذه المجموعات الحزبية.
ويتأسس الحقل السياسي المغربي المعاصر على ثلاث كتل كبرى:
– الكتلة المتفرعة عن حركة المقاومة الوطنية والمتركزة على «حزب الاستقلال» الذي تأسس عام 1944، وقاد مع الملك الراحل محمد الخامس حركة التحرر الوطني، ومنه تفرع حزب اليسار الكبير «الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية». ويمكن أن نضيف إليهما «حزب التقدم والاشتراكية» الذي هو الوريث التاريخي للحزب الشيوعي المغربي الذي تشكل عام 1943 وخضع من بعد لمراجعة فكرية وسياسية عميقة.
– الكتلة الليبرالية التي تبلورت في سياق مشروع بناء الدولة وتعزيز مكاسبها التنموية والتحديثية، وتتركز حول «التجمع الوطني للأحرار» الذي تأسس عام 1978 ليكون حزب الطبقة الوسطى والبورجوازية الوطنية والبيروقراطية العليا. ويمكن أن نضيف إليه «حزب الأصالة والمعاصرة» الذي تأسس عام 2008 في إطار ديناميكية الإصلاح وتسوية الملفات الحقوقية والعدالة الانتقالية، بحيث يكون إطاراً جامعاً لليسار المعتدل والتيارات الليبرالية الشبابية الجديدة.
– الكتلة الأمازيغية التي تتمحور حول حزب «الحركة الشعبية» الذي أسسه سنة 1959 الزعيمان البارزان المحجوبي احرضان وعبد الكريم الخطيب ليكون حامل المطالب الثقافية والاجتماعية للريف المغربي.
ولا بد من الإشارة هنا أن إلى هذه الكتل تلتقي في الثوابت الثلاثة الكبرى للعقد السياسي المغربي وهي الملكية الدستورية، ومرجعية الإسلام العليا المتمثلة في إمارة المؤمنين، والديمقراطية التعددية.
لقد ضمنت هذه الثوابت الكبرى للمغرب تجنب المطبات والهزات الكبرى التي مر بها عدد من بلدان المنطقة. فعلى عكس اليسار الانقلابي في الساحة العربية، حافظ اليسار المغربي على الشرعية الملكية واعتبرها ضمانةً لوحدة المغرب ولاستمرارية الدولة. كما أن نظام إمارة المؤمنين الفريد في المغرب حل عملياً مسألة الشرعية الدينية للنظام السياسي من خلال إسناد مهمة الإشراف على الحقل الديني ورعايته في المجال العمومي للملك نفسه الذي يختص دستورياً بتوجيه ورئاسة المؤسسة الدينية.
أما التعددية الحزبية فهي الخيار الذي تبنّاه المغرب منذ استقلاله سنة 1956 وقننته الدساتير المغربية المتتالية منذ دستور 1962 الذي نُقِّح عدة مرات في إطار الحوار السياسي الجامع آخرها سنة 2011، وفق خط جامع بين الدور الإشرافي والحكمي (من التحكيم) للمؤسسة الملكية على شؤون الحكم ومبدأ التناوب على السلطة عن
طريق الاقتراع الشعبي.
بعد انتخابات 2011، شهد المغرب تحولات كبرى طالت الأحزاب السياسية التقليدية إثر غياب وجوهها المؤسسة الكبرى عن طريق الوفاة أو العجز البدني: مثل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي (الاتحاد الاشتراكي)، وأحمد عصمان (الأحرار) ومحمد بوستة وعباس الفاسي (الاستقلال).. ولقد استفاد تيار الإسلام السياسي من هذا الفراغ السياسي من خلال استثمار الورقة الدينية الاحتجاجية مقابل النزعة الإصلاحية والحضارية للإسلام المغربي التي يمثلها «حزب الاستقلال» الذي عرف تراجعاً ملحوظاً في فترة قيادة النقابي المشاكس حميد شباط.
كما أن الحزب الليبرالي الأبرز (الأحرار) شهد صراعات داخلية أضعفته سياسياً وانتخابياً إثر انسحاب أحمد عصمان من المشهد السياسي، قبل أن يستعيد الحزب عافيته إثر ترؤسه من الوزير ورجل الأعمال عزيز أخنوش الذي قاده للانتصار الانتخابي الأخير وإلى رئاسة الحكومة، على غرار ما حدث لحزب الاستقلال في ظل قيادة الشاب اللامع «نزار بركة» الذي أعاد لهذا الحزب العتيد ألقه وقوته الشعبية. ولقد أبرزت الانتخابات الأخيرة عودة «الاتحاد الاشتراكي» إلى الواجهة بعد تراجعه إثر انسحاب آخر قادته التاريخيين عبد الرحمن اليوسفي الذي ترأس حكومة التناوب التوافقي سنة 1998.
سألني المراقب الغربي عن آفاق الاستقرار السياسي في المغرب في ظل الأزمة الإقليمية المتفاقمة، فأجبته بأن المغرب الذي كان الدولة السنِّية العربية الكبرى الوحيدة التي قاومت الغزو العثماني وحافظت على استمراريتها على الرغم من الاحتلال الأجنبي، قد طوَّر آليات فاعلة للسلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي، ومن بينها الديمقراطية التشاركية التعددية التي أثبتت مجدداً جدوائيتها وفاعليتها.