بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- بعيداً عن واشنطن وضجيج أجهزة التعبئة الإعلامية وصخب مراكز العصف الفكري، وشراسة الحملة التي يشنها خصوم الرئيس، جوزيف بايدن، بسبب أداء حكومته الهزيل أثناء النزوح الكبير من أفغانستان، وبعيداً عن الحرج المتفاقم في صفوف قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية كنتيجة محتومة لفشل صارخ تكرر بانضباط لافت على امتداد فترة الاحتلال العسكري للدولة الأفغانية، وبعيداً عن صراخ الأمين العام لحلف الناتو محذراً ومنبهاً لعواقب ما يتردد هذه الأيام في عواصم عدة لدول الحلف، بعيداً عن كل هذه المؤثرات، كان واجباً أن نجد الوقت والصحبة الطيبة لنتأمل صوراً جديدة تشكلت بداياتها خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتزداد وضوحاً مع كل يوم يمر، وكل تطور يستجد.
الولايات المتحدة ليست في أزهى عصورها. نحن حين نفتتح نقاشنا بهذه العبارة لا نعلن جديداً، ولا نطلق قنبلة إثارة، إنما نريد أن يجري تأملنا وحواراتنا ونحن متحررون من سيطرة حالة فكرية هيمنت لمدة طويلة. هيمنت إلى حد أننا كنا نحرم أنفسنا من متعة الخوض في المستحيل، أو حتى في ما يقترب منه، وكان يقع تحت عنوان الشطط، وفي أحسن الأحوال تحت عنوان القناعات الأيديولوجية. بكل البساطة الممكنة، ذهبنا فور أن استأنفنا عرض الرأي، كل فرد على انفراد وكلنا مجتمعون، إلى إعلان تحررنا الفكري من أغلال حقيقية، أو توهمناها عبر العقود والسنين.
كنت هناك قبل وخلال ثورة شباب الجامعات على حرب أمريكا في فيتنام. وقتها اتهموا الشباب بأنهم خضعوا لدعايات شيوعية رتبت لها موسكو بعناية فائقة، وأموال طائلة. وبرغم الرقابة على الإعلام والضغوط السياسية والأمنية على أنشطة الاحتجاج والمعارضة والتمرد، كانت الأخبار الخارجة من فيتنام تؤكد زيف البيانات الرسمية عن القتلى في جانب أمريكا، والدول الحليفة التي غمرت بأعدادها الهائلة الأراضي الفيتنامية. واستمرت أجهزة الحرب تدافع عن استمرارها، وتواصلت أنشطة الاحتجاج تدعو إلى الانسحاب أمام تفاقم عنف القوات الأمريكية، وكثرة ضحاياها على الطرفين.
فشلت الحرب في فيتنام كما كان واضحاً منذ البداية، وفشلت حرب أمريكا ضد العراق. هذه الحرب التي مارس فيها جنود أمريكا وضباطها أبشع أعمال العنف والتعذيب والتخريب والانتقام، مارسوها بشهادات المخضرمين منهم، وإفادات أهل العراق. حرب لم يتحقق بعد علماء السياسة الأمريكيون، قبل غيرهم من الأجانب، من السبب الذي دفع رئيساً غير متوازن دينياً وعقلياً وتنقصه تجارب حياة لشنها. لم تكن هناك في العراق أسلحة دمار شامل. ولعل السبب كان حاجة جهاز أمريكي معين لتغيير نسب الوضع الطائفي في البلاد، أو لعله كان التحقق من صلاحية فكرة الهدم البناء، وكانت ما تزال في بدايات بحثها للتأكد من جدواها. ولعل السبب كان رغبة مجموعة من الصهاينة العتاة في “البنتاجون” وخارجه، ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر دونالد رامسفيلد، الذي مات منذ أيام، وكان وزيراً للدفاع في عهد الرئيس بوش، وجون بولتون مستشار الأمن القومي في عهد دونالد ترامب، ورتشارد بيرل الملقب حيناً بدراكولا وحيناً آخر بأمير الظلام.
يسأل الناس الأقرب إلى السياسة من غيرهم، يسألون إن كانت الحرب في أفغانستان بكلفتها الباهظة، وحصيلتها الجوفاء، ونهايتها البشعة، آخر حروب الأمريكان. أم أنهم، أي الأمريكيون، يسعون جدياً وبحماسة وبتحشيد الأنصار وإغراء تجار الحروب والمستفيدين منها، يسعون جدياً نحو حرب عالمية تملأ الفراغ الذي خلفته الحرب العالمية ضد الإرهاب. اللافت هنا أن بايدن صاحب الحملة الداعية إلى إنهاء الحرب العالمية ضد الإرهاب، هو الرئيس ذاته الذي يصرخ يومياً داعياً ما تبقى له من حلفاء في الغرب وأغراب في جنوب شرقي آسيا، إضافة إلى أستراليا واليابان، داعياً إياهم إلى حرب عالمية ضد الصين. وتأتينا الإجابة حاسمة وغير مترددة على لسان الرئيس بايدن ممثل المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة: لن تكون أفغانستان آخر حروب أمريكا، ولن تكون الحرب العالمية ضد الإرهاب آخر الحروب العالمية.
أمريكا ما بعد أفغانستان قوة دولية كبيرة، وليست قوة عظمى، ولا تقود. لا تقود ليس لأنها لا تريد أن تقود، ولكن لأن القوى الدولية الأخرى لا تريد أن تقودها أمريكا. إنجلترا مثلاً، أعلنت على لسان وزير دفاعها أنها لن تعتمد في أمنها مستقبلاً على الولايات المتحدة. فرنسا، وغيرها في الاتحاد الأوروبي، عاقدة العزم على إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة عن حلف الأطلسي الذي كانت تقوده من دون نجاح عسكري يذكر، كما أن تايوان سوف تعيد ترتيب أوراقها، لن تضع كل أوراقها في السلة الأمريكية اليابانية، وكذلك دول في منظمة الآسيان وفي شرق أوروبا وشمال وسط آسيا
أظن في الوقت نفسه أن دولاً قليلة جداً في الشرق الأوسط سوف تحاول في ضوء نتائج الحرب الأمريكية في أفغانستان إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها، ودوافع ظني ليست خافية.