الشرق اليوم- بعد كل هزيمة، تبدأ مرحلة تبادل الاتهامات! فقد وجّه البريطانيون أصابع الاتهام إلى الأمريكيين بعد انسحابهم المشين من كابول وتقوية خصوم الغرب، وفي المقابل يوجّه مناصرو جو بايدن اتهاماً مضاداً لبريطانيا ودول أوروبية أخرى لأنها تتوقع من الولايات المتحدة أن تتابع تكبّد الخسائر المادية والبشرية في أفغانستان بعدما خفّض معظم أعضاء حلف الناتو التزاماتهم منذ فترة طويلة.
عند سؤال الحكومة البريطانية حول ما تنوي فعله كي تفرض بريطانيا نفوذها العالمي بعد حقبة “بريكست”، غالباً ما تقول إنها ستستعمل “قدرتها التنظيمية”، حيث سيسمح الانتساب إلى منظمات دولية أخرى لبريطانيا بتحقيق النتائج التي ترغب فيها تزامناً مع توجيه القوى الأخرى نحو معالجة التحديات العالمية. لقد بدأنا هذه السنة تزامناً مع انتشار تصريحات حكومية تعتبر رئاسة مجموعة الدول الصناعية السبع إثباتاً على استمرار أهمية بريطانيا على الساحة العالمية، لكن لم تثبت أي أدلة أن القمة التي عقدتها تلك المجموعة في شهر يونيو الماضي ستعطي نتائج أخرى، ويبدو الاستعراض الودّي الذي قدّمه بوريس جونسون وجو بايدن في مقاطعة “كورنوال” مزيفاً جداً بعدما رفض الرئيس الأمريكي بشكلٍ قاطع استشارة بريطانيا في الشأن الأفغاني، وبعد سقوط كابول في الأسابيع الأخيرة، نظّم رئيس الوزراء البريطاني اجتماعاً افتراضياً عاجلاً لمجموعة الدول الصناعية السبع لكنه فشل في إقناع بايدن بتغيير مساره.
يتعلق الاختبار المقبل للقدرة التنظيمية البريطانية المزعومة بمؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ لعام 2021 في غلاسكو في شهر نوفمبر، إذ تسود مخاوف كبرى من أن يفشل ذلك الاجتماع الأساسي أيضاً، إلا إذا اقتنعت الدول الأكثر ثراءً بتنفيذ وعودها غير المُحققة ومساعدة الدول الأكثر فقراً في معالجة الأزمة المناخية، ولضمان نجاح تلك القدرات التنظيمية، لا بد من بذل جهود حثيثة والتحلي بكفاءة عالية لبناء علاقات مثمرة مع قادة العالم وحصد الإجماع عند الحاجة، لكن لا يمكن نَسْب أيٍّ من هذه الصفات إلى جونسون أو أي شخصية أخرى في معسكر مؤيدي خطة “بريكست”.
قد نبالغ حين نقول إننا أمام مرحلة تشبه فترة العشرينيات، حين انسحبت الولايات المتحدة إلى ما وراء الخنادق الكبرى في المحيطَين الأطلسي والهادئ. ستبقى الولايات المتحدة لاعبة عالمية حين تخدم هذه المكانة مصالحها الخاصة، لكن يصعب ألا نستنتج أن العالم اليوم يشهد تغيراً واضحاً في توجّهاته، بعيداً عن أولويات واشنطن، مما يعني زيادة احتمال تهميش بريطانيا، فبعد توجّه باراك أوباما إلى محور آسيا، عمد دونالد ترامب إلى تخريب المعايير الدولية، ويطرح جو بايدن اليوم نسخته الخاصة من شعار “أمريكا أولاً”.
لا توحي الظروف بأن هذا التحول سيكون عابراً، بل يبدو أنه حدث مفصلي، حيث يفكر وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، بهذا الموضوع أكثر من معظم زملائه في الحكومة البريطانية، فهو يظن أن اعتبار الدعم الأميركي الدائم أمراً مفروغاً منه نهج خطأ، ويدعو بريطانيا إلى العمل على إنشاء تحالفات أخرى، ويعتبر فرنسا شريكة محتملة لدعم الدول الإفريقية التي يحاصرها المتطرفون. يوافقه الرأي النائب المحافِظ توم توجندهات، فهو يظن أن بريطانيا يجب أن تتخلى عن اتكالها على حليف واحد: “على غرار الفشل الذريع في السويس، ستغيّر الأزمة القائمة في أفغانستان سياستنا الخارجية بالكامل… لا يمكن أن يُحدد البيت الأبيض وحده خياراتنا”. بدأ البعض في معسكر المحافظين يفكر بهذا الموضوع على الأقل، يتزامن هذا الوضع مع تجدّد النقاش في أوروبا القارية حول تخفيف اتكالها على الولايات المتحدة، يمكن تعزيز الجهود الأوروبية المشتركة لحماية أمن القارة عبر إشراك بريطانيا في هذه المساعي، إذا لم تعد بريطانيا ترغب في متابعة اتكالها المفرط على الولايات المتحدة، يمكنها أن تبحث عن أصدقاء جدد وسط الديموقراطيات الليبرالية في جوارها قبل أي مكان آخر. ستكون أي شراكة متبادلة المنافع في مجال الدفاع والسياسة الخارجية منطقية، لكنها فكرة بدهية، عملياً تتطلب هذه الشراكة مستوىً من الاحترام والثقة بدل العلاقات التي سمّمها عهد بوريس جونسون وكبار المسؤولين الآخرين في حزب المحافظين، حيث اعتبر هذا المعسكر أوروبا أخطر عدو للبلد وأجّج الخلافات حول شروط الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ستحظى بريطانيا يوماً بحكومة تعترف بأن مصلحة البلد الوطنية تكمن في إعادة بناء الجسور التي أحرقتها خطة “بريكست” مع الدول المجاورة، لكنها ستضطر أولاً لتغيير رئيس حكومتها.