بقلم: فاروق يوسف – العرب اللندنية
الشرق اليوم– اقتطع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي أربعين سنة من حياة الشعب الليبي. سنوات ليبية سُجلت باسمه. ذلك هو زمن القذافي. بأي حق فعل ذلك؟ سؤال فائض.
ما حدث يشبه عملية اختطاف. فرد يختطف شعبا. كان الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته “مزرعة الحيوانات” دقيقا حين تخيل ما يجري حين يسيطر فرد على مصائر الآخرين. غير أن ما شهدته دول في العالم الثالث تقف ليبيا في مقدمتها، فاق خيال أورويل.
لم يكن القذافي صاحب مشروع وطني بالرغم من أن الطنين كان يملأ رأسه بمشاريع أممية، لم تكن في حقيقتها إلا أفكارا بدائية ساذجة هي انعكاس لرغبة مجنونة في تكريس صورته رجلا وحيدا وفريدا من نوعه في التاريخ البشري.
لذلك فإن القذافي شعر في لحظة مبكرة من لحظات انهياره العقلي أن ليبيا صارت تضيق به أو أنها البلد الذي لا يصلح لتطبيق نظرياته التي ضمها كتابه الأخضر، لا لشيء إلا لأن الشعب الليبي لم يكن في مستوى شعب السويد حضاريا. أما لماذا لم يسع للارتقاء بالليبيين إلى مستوى السويديين فتكون نظرياته ممكنة التنفيذ يومها، فذلك سؤال لم يسأله ليبي إلا وكان مصيره الموت.
أربعون سنة من الزمن الليبي وهو زمن أمة مكبلة بالخوف لم يتقدم الليبيون خطوة واحدة في اتجاه الطرق التي تفضي بهم إلى اللحظة السويدية التي كان يفكر فيها أخوهم الأكبر. العكس هو ما فعله القذافي. لقد أغلق الرجل كل الطرق في وجه ليبيا وانتهى منبوذا. لا لأن الغرب قد تآمر عليه كما حدث في نهاية حياته، بل لأنه أراد أن يقف في وجه الغرب بطريقة عدوانية فيها الكثير من الشر والخسة واللؤم وعدم احترام حق البشر في الحياة.
حين قضى الناتو على جماهيرية القذافي لم يشعر الشعب الليبي بدوي سقوط دولته كما حدث في العراق بعد احتلاله عام 2003 مثلا. كان القذافي قد أسقط الدولة منذ حوالي أربعين سنة وأحل محلها جماهيريته التي هي عبارة عن كيان متعدد الوجوه غير أن من الصعب العثور على وجه واحد من بين تلك الوجوه يمكن أن يمت بصلة إلى مفهوم الدولة الحديثة. كانت دولة وشايات تتكسر بين قدمي تمثال ملك ملوك أفريقيا. لقد أهدر القذافي جزءا من ثروة الشعب الليبي من أجل أن ينال ذلك اللقب المضحك. فملوك أفريقيا هم السحرة. هل كان الرؤساء الأفارقة المنافقون والانتهازيون والمنتفعون يضحكون على ذلك العربي الذي تخيل نفسه رجل فضاء في كتابه القصصي الوحيد؟
ذلك مشهد مقتطع من زمن القذافي الذي استولى على زمن الشعب الليبي وحل محله.
“أنا ليبيا” لم يقلها. بدلا من أن يمشي بليبيا إلى الأمام باعتباره حاكما مستبدا وضعها في جيبه وجلس على كرسيه باسترخاء وهو يخطط لنشر الفوضى في العالم. ما الذي كان القذافي يفكر فيه بعد أن انتهى من ليبيا باعتبارها واحدة من ممتلكاته التي لا يشاركه أحد بها؟ كان جادا يوم طلب من الشعب الليبي أن ينسى أموال النفط. كان الرجل صريحا وهو يضع الأمور في نصابها. كان جادا في كل مواقفه التي تدعو إلى السخرية. ولكنها سخرية تنطوي على مأساة شعب.
كان ذلك الشعب منسيا بعد أن سلم مصيره إلى الأخ القائد.
حين اختفى القذافي لم تكن هناك دولة. لم يأخذ تلك الدولة معه. فدولة الليبيين لم تكن موجودة. أخذ القذافي دولته الوهمية معه وترك الليبيين يتلفتون باحثين عن دولتهم. كل أفراد الطبقة السياسية الحالية في ليبيا هم أبناء زمن القذافي الذين لم يتعرفوا على زمن الشعب الليبي.
حين يتلفت المرء إلى تلك الأربعين سنة يشعر بالخيبة والفزع والانكسار. لقد ضاع زمن عزيز، كان من الممكن أن تكون ليبيا فيه واحدة من الدول المتقدمة العزيزة والمحترمة. ولكن الأسوأ يكمن في أن ضياع ذلك الزمن سلم الشعب إلى العبث. فلم تعد ليبيا قائمة لا في العقول ولا في القلوب. بدلا من ذلك حلت حسابات الربح والخسارة بين الأحزاب والميليشيات والقبائل والجهات.
كان الليبيون صغارا في زمن القذافي. من الصعب أن يكبروا إلا إذا استعادوا زمنهم. الزمن الذي يكونون فيه أمة واحدة. أمة تدرك أن واحدا من أهم واجباتها أن تتلمس الطريق إلى مصيرها.