بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة
الشرق اليوم- في بغداد وعلى ضفاف دجلة اجتمع الأسبوع الماضي سياسيون ونخبويون، حيث عُقِدَ الاجتماع الأول بعنوان المؤتمر الوطني للحوار، والثاني عقده مركز الرافدين للحوار بعنوان (حلول).
وأنا أتابع كلمات وخطابات المشاركين تذكرتُ رواية (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ التي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي، والرواية تسلّط الضوءَ على شخصيات تنتمي لطبقة المثقفين، ولذلك كانت الحوارات تحاول أن تسرد تأملات واقعهم السياسي والاجتماعي بلغةٍ لا تخلو من حضور الفلسفة، ولقاء شخصيات الرواية يجري في إحدى العوامات على سطح النيل في قلب القاهرة.
“أنيس أفندي”، الشخصية الرئيسة في الرواية، الموظف الحكومي في وزارة الصحة، وهو يكتب أحد التقارير الحكومية الروتينية التي اعتاد على كتابتها طوال عقود من عمله موظفاً؛ يكتب أنيس التقريرَ وهو ما زال تحت تأثير مخدر الحشيش، ولا يرى أن قلمه قد نفد مداده، ليُثبت للمسؤولين والرأي العام توفّر الأدوية والأَسِرَّة على عكس ما تدّعي الصحف وتُثبت شكاوى المواطنين، ويُسلِّم أنيس التقريرَ لمديره، الذي يوبّخه ويتّهمه بالاستهتار وأنه كتب التقرير وهو “مسطول”!
يبدو أن هناك تشابها ما بين الأحاديث والأسئلة عن الأوضاع السياسة في البلاد التي كان يتداولها أبطالُ رواية نجيب محفوظ، وما بين الأحاديث السياسية التي طرحت في مؤتمر الحوار الوطني وملتقى الرافدين، لكنَّ الاختلاف هو أن أحاديث رواية محفوظ تجري على عوامة بسيطة على ضفاف النيل، أمّا المشاركون في الملتقى قد اجتمعوا في فندق بابل ذي الخمس نجوم في بغداد الذي يطلّ على ضفاف دجلة.
وكان أبطال الرواية يجمعهم الحشيش والملل والإحساس بعدم الأهمية، أمّا حضور الملتقى فكانوا ينقسمون بين زعيم أو سياسي يريد إعادة تسويق نفسه من جديد وينتقد الأخطاء الماضية ويريد الانتقال نحو بداية جديدة، وبين نخبة تعتقد بأنها تساهم في تقديم حلول لأزمة العراق.
من حقي كمواطن ومهتم بالشأن السياسي أن أتساءل عن جدوى وغاية مثل هكذا نشاطات، لأنَّ أي متابع لأحاديث الساسةِ والنخبويين المشاركين لا يجد فيها طرحاً جديداً، فالجميع متفق على التشخيص، وثمّة اتفاق ضمني على الحلول، ويقابله اتفاق صريح على صعوبة تحقيق الإصلاح بسبب قوة وصلابة ممانعة المنظومة السياسية التي ترفض التنازل عن مكاسبها ومغانمها في السلطة.
وحتى أبرئ نفسي من الاتهام بالنظرة السوداوية، دعوني استشهد بما طرحه رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي في مؤتمر الحوار الوطني، إذ قال “مسؤوليتنا جسيمة، لأنَّ المشكلة الأساسية في العراق كما نراها لم تكن مشكلة تظاهرات أو تقاطع آراء أو أفكار، بل المشكلة كما فهمناها هي انعدام الثقة… وعندما يفقد المجتمعُ ثقتَه بالمؤسسات الرسمية وبالعملية السياسية والانتخابية يكون على وشك أن يفقد الثقة بالدولة، وتلك أعلى مراحل الخطر على أيّ مجتمع في العالَم”.
رئيس الوزراء الذي يشخّص أزمةَ الثقة بين المجتمع والدولة، يفترض أن يكون مدركاً لخطابه السياسي الذي يردم فجوةَ الثقة ويصحح مسارَ علاقة الحكومة بالمواطن. لكنّه بعد أيام وفي لقاء مع مجموعة من الإعلاميين يتحدّث رئيس الوزراء عن محاربة الفساد، ويقول “بحوزتنا 18 ملف فساد، إذا اطلعتم على تفاصيلها ستصابون بأزمةٍ قلبية! ولا أعرف أي ثقة يمكن أن تكسب بها الجمهور ورئيس أعلى سلطة تنفيذية في الدولة يتحدث عن ملفات فساد لم يعلن عنها لتحشيد الدعم في محاربة الفساد والمفسدين.
هنالك الكثير من ترسبات بقايا الحكم الشمولي تتحكم بالمجال السياسي في العراق، ولعلَّ من أهمها ظاهرة الثرثرة السياسية التي بدأت تطغي على أحاديث السياسيين وحاشيتهم النخبوية. وإذا كان النظام الشمولي يحتكر وسائل الإعلام لترويج أحاديثه وخطاباته بطريقة، فنحن الآن أمام زعماء وسياسيين يمتلكون قنوات تلفزيونية ولديهم صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي، وباتوا حاضرين وبقوّة في برامج الحوارات السياسية.
ليس هذا فحسب، وإنما بدأوا يستعينون بدكاكين ترفع عناوين مراكز الأبحاث أو الدراسات تقدّمهم باعتبارهم أصحاب رؤية لحل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بالعراق! في حين يعرف القاصي والداني أن هذه الأزمات هي من نتاج سيطرتهم على مركز القرار السياسي وتقاسمهم مؤسسات الدولة باعتبارها اقطاعيات حزبية لهم ولزبائنهم السياسيين.
مشكلة السياسيين، وحتى بعض النخبويين، في أنهم لا يميزون بين الخطاب السياسي والثرثرة السياسية، فالأول هو بناء من الأفكار يقوم على أرضية فلسفية تكون مرتكزاً لرؤية سياسية محددة الأبعاد والغايات والأهداف، وتستخدم مفرداتها اللغوية بطريقة منسجمة. أمّا الثرثرة السياسية فهي مجرد لغو فارغ وأحاديث تعبر عن نرجسية سياسية تريد أن تسوق نفسها بأنها صاحبة فضل في تصديها للأمور للشأن السياسي، وتقدّم نفسَها باعتبار صاحبها يعلم الخفايا والأسرار التي لا يدركها المواطن العادي، ومرتكزها الرئيس في أحاديثها هو نظرية المؤامرة والحديث عن إنجازات لا يتلمّس منها المواطن أيَّ شيء.
وحتى تتأكد من تورط كثير من السياسيين بداء الثرثرة السياسية، بنقرة بسيطة على غوغل أو يوتيوب أو حتى متابعة مواقعهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، ستجد هوسهم في الحديث يتغلب على رغبتهم في الاستماع. إذ في أغلب الملتقيات تجدهم متحدثين لا مستمعين، ويبدو أن ذلك من أهم مؤشرات وجود خلل في الثقافة السياسية والاجتماعية. انظروا إلى لقاءات رؤساء الحكومات عندما يلتقون النخب الثقافية والأكاديمية والإعلامية تجدهم كثيراً ما يتحدثون وقليلاً ما يستمعون!
وحتى لا يكون المقال ثرثرة سياسية هو الآخر، نستشهد بتجارب الدول الناجحة ولعلَّ تجربة سنغافورة أفضل مثال يمكن أن نستشهد بها؛ يؤكد (لي كوان يو) صانع نهضة سنغافورة في مذكراته، بأن شرط النجاح في مهمة بناء الدولة يستوجب أولاً كسب ثقة كبار الموظفين المدنيين، وتوعيتهم بالتهديدات والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه مسيرة بناء الدولة. ولذلك سعى إلى تأسيس مركز للدراسات السياسية يقوم بهذه الوظيفة، وكان “لي كوان” وبعض الوزراء يترددون على المركز لتحقيق أهداف عملية من خلال مناقشة الأوضاع الحقيقية وايجاد حلول فورية لها.
وفي افتتاح المركز تحّدث “لي كوان” عن أهدافه: “ليست الأهداف فقط أن نحث أذهانكم، بل لنحيطكم علماً بالمشكلات الحادة التي تواجه أية حكومة منتخبة شعبياً في وضع ثوري… وعندما تواجهكم مثل هذه المشكلات ستكونون أكثر قدرة على مساعدتنا في إيجاد الحلول لها، وبجعل الإدارة أكثر حساسية واستجابة، لحاجات الناس وأمزجتهم”.
ومن هنا يمكن أن نقارن الوضع في العراق، فإن مراكز الدراسات بدلاً من أن تستضيف السياسي والموظف الحكومي في المناصب العليا للاستماع إلى الحلول، فهي تقدم السياسيين في ملتقياتها ليعودا ثرثرتهم السياسية ويصدعوا رؤوسَنا عن نقد الفساد والفشل والخراب، الذي هو من نتاجات منظومتهم السياسية وهم مشاركون في بقائه وديمومته.