بقلم: جورج شاهين – صحيفة “الجمهورية” اللبنانية
الشرق اليوم – لم يتوقف سيل المواقف الداعية إلى تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، وبشّر المعنيون بها وفوداً أجنبية بقرب ولادتها من دون ظهور ما يثبت صدق تعهداتهم. فحبل العراقيل طويل بوجود القدرة على ابتداعها في أي لحظة، وهو ما يوحي بأنّ العقدة هي في مكان آخر لم يتجرأ أحد على الكشف عنها. والأخطر إن استنسخت تجربة دعم المبادرة الفرنسية قبل تفكيكها. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه المعادلة؟
عجز المترجمون ومعهم علماء النفس والخبراء في علم السياسة والاجتماع عن تفسير مسلسل المواقف اللبنانية التي توحدت في إعلان تأييد ضرورة تشكيل الحكومة العتيدة، وتسابق الجميع منذ أن أطلقت المبادرة الفرنسية قبل عام في الحديث عن استعداداتهم لتسهيل تشكيلها والتنازل عن مطالبهم. وما زاد من صعوبة المهمة أنهم تعهدوا في الاستشارات النيابية غير الملزمة بتسهيل مهمة الرئيس المكلف، وتراجع البعض عن سلسلة من الشروط التعجيزية وقبلوا بمواصفات «حكومة المهمة» من اختصاصيين وخبراء ناجحين في مجالات عملهم المهنية ليشكلوا فريق عمل متجانس بعيدا من الانتماءات الحزبية. وأجمعوا على اعتبار خريطة الطريق التي رسمتها المبادرة الفرنسية على أنها إعلان مسبق لمضمون بيانها الوزاري يعمل على انتشال البلاد من مسلسل المآزق المتناسلة التي يعانيها المواطنون في حياتهم اليومية، والانتقال بها إلى مرحلة التعافي والإنقاذ بعد ترميم الجسور المقطوعة بين لبنان ومجموعة كبيرة من الدول الصديقة والمؤسسات المانحة واستدراج الثقة الخارجية والداخلية بالحكم.
على وقع هذه التعهدات التي تراجع أصحابها عنها بتدرج وبلا خجل أو وجل، تارة بمنطق القوة المفرطة وأُخرى بالحيل السياسية وابتداع الاسباب التي دفعتهم إلى التراجع عما تعهدوا به، بَدت العقد الحكومية التي يعالجها اليوم كل من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي ومعهما المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بوساطته المتجددة، أنها ما زالت هي هي. وعلى رغم حجم ومضمون البيانات المتبادلة التي تحدثت عن العقبات التي تعوق عملية التأليف وما حفلت به من اتهامات مباشرة وأخرى مشفّرة، ما زال مسلسل التبرؤ من المطالب قائماً على ما كان عليه منذ فترة طويلة. وبلغ الأمر مكانا متقدما إلى درجة يمكن إعادة استنساخ ما صدر من بيانات وتصريحات جنّد لها الخبراء والمستشارون منذ منتصف أيلول الماضي، عندما عاناها المكلف الأول عملية التأليف السفير مصطفى أديب، قبل أن ترافق طول الطريق مسيرة تكليف الرئيس سعد الحريري لـ10 أشهر تقريبا. وهو ما زاد من نسبة القلق على المستقبل وعلى مصير الحكومة التي يدّعي كل منهم السعي إلى تشكيلها في الأمس قبل اليوم.
وما زاد في الطين بلة، أن هناك من يصرّ على نفي تهمة السعي إلى مطلب ما من دون تردد، فجميع الوسطاء يتحدثون عن مطلب رئيس الجمهورية ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» «الثلث المعطل» أو «الضامِن» لا فارق بين التوصيفين، ولم يتراجع أحد من الوسطاء المحليين والأجانب وسعاة الخير من أصدقاء عون وميقاتي والمكلفون نبش محاضر الجلسات وتعميم السيناريوهات المتوقعة جهاراً عن تقديم هذه العقدة على ما عداها من العقد. وكل ذلك يجري علنا على وقع بيانات مكتب الإعلام في القصر الجمهوري التي لم تعد تحصى، والتي تناولت هذا الموضوع بثقة مفرطة. فإصرار رئيس الجمهورية على بعض الأسماء لبعض الحقائب ممّن يقفون في الصف الخلفي من فريقه أو من فريق رئيس «التيار الوطني الحر» لا يمكن تفسيره سوى السعي إلى هذا الثلث بالأسماء معروفة، ولم يعد هناك من طريقة صعبة للوصول إلى الأسماء «المغمورة» بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، وما تجمعه مكاتب المعلومات في الأجهزة الأمنية المختلفة كافٍ لكشف ما يعتقده البعض مستوراً.
وعليه، يقول العارفون: مُغفل من يعتقد أنّ في قدرته إمرار اسم وزير لحقيبة دسمة أو عادية لرفع عدد الحزبيين في حكومة قيل إنها من الاختصاصيين والخبراء غير الحزبيين. فلكل منهم «فيشته» الخاصة وصولاً إلى ماهية علاقاته الشخصية والمهنية والإنسانية، بما فيها «الغرامية» التي لا يمكن إخفاؤها. فهي موثقة بالصوت والصورة أيضاً إذا دعت الحاجة. ويستطرد العارفون ليقولوا أن الأمر لا يقف عند المحسوبين على فريق رئيس الجمهورية وتياره الذين يمكن أن يشكلوا تكرارا مملا لمهمة «حصان طروادة» في أوقات الشدة، أو ممن يمكن حصولهم على لقب «الوزير الملك». فالكشف عن إحالة القاضي بسام مولوي إلى التفتيش القضائي قبل اقتراح تعيينه وزيرا للداخلية واحد من هذه التجارب المماثلة. وقد أضيفت عقدته على لائحة القضايا التي يجب معالجتها قبل الوصول إلى التركيبة النهائية للتشكيلة الحكومية. وإن توغّل المراقبون أكثر فسيجدون أن أسماء كثيرة سقطت على الطريق منذ بدء البحث في الأسماء قبل اسقاطها على الحقائب، بدليل أن رئيس الجمهورية شَكا غير مرة من فقدان السير الذاتية للأسماء المقترحة أثناء تجربة الحريري ومع تجربة ميقاتي والعكس صحيح، ففي كل لقاء تطرح أسماء جديدة لا يتوانى الطرف الثاني من طلب مهلة للتعرف إلى هذا الشخص والتدقيق في سيرته الذاتية وسجله العدلي أو في أي موقع يمكن ان يشكل مساساً بشعار البحث عن الأنقى والأصلح للمهمة الحكومية على رغم اعتبار هذه المعايير أنها باتت من ماض سحيق. فما هو ثابت أن مثل هذه المعايير تخلى عنها الجميع منذ أن تنكّروا لما قالت به المبادرة الفرنسية، ولم يلتزم أي منهم المواصفات الدولية التي تحدثت عنها، فاختير صناعي لحقيبة الصناعة قبل أن يكلف الاتصالات وربما ستثبت التجارب حصول ممارسات مماثلة في قابل الأيام.
عند هذه المعطيات التي تكشفت عنها مساعي تأليف الحكومة، بقيت الأمور على حالها ولم يتغير شيء في الساعات الماضية، وعلى وَقع تخلي البعض عن شروط سابقة يبدو للمراقبين أن كثيرا منها يتحكم بالمفاوضات الأخيرة، فلعبة تقاذف الحقائب لم تتوقف بعد والتبريرات لها متوافرة بطريقة تلامس مستقبل العمل الحكومي وبمنطق المحاسبة على النيات. وبلغ الأمر بأحد العارفين القول إنه لم يعد مستغرباً أنّ الدعوة باتت لتشكيل «مجلس إدارة» وليس حكومة تعمل كفريق عمل. فثقة رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة باتت محصورة بالأشخاص وانتماءاتهم السياسية، قبل البحث عن اختصاص مطلوب في هذه الحقيبة أو تلك ليعود اللبنانيون إلى «لعبة الدمى ومشغل الدمى».
وعند هذه الملاحظات يتوقف المراقبون والديبلوماسيون ليعبّروا عن مزيد من الخوف على مستقبل الفريق الحكومي وتوقّع إدارة فاشلة لمعظم الملفات المطروحة، فمن يقررون في بعض الحالات لن يكونوا على طاولة مجلس الوزراء طالما أن من سيملأون الكراسي سيلعبون أدوار المندوبين لإدارة جزء من حصص حكومية وتأمين مصالح وغايات لا تمتّ بصلة إلى حاجة البلاد إلى «فريق إنقاذ» متجرد قادر على مواجهة المصاعب المدبّرة للبلاد والعباد، ليقول بكل صراحة إن الحديث عن تأييد الجميع لحكومة قادرة وفاعلة كذبة كبيرة، فجميعهم يريدون حكومة بمواصفات «تمثيلية شخصية» عكس ما يعلنون، ويستعدون من اليوم لنصب المكائد والمكامن للانقضاض بعضهم على بعض متى سمحت الفرصة. وما على اللبنانيين سوى رفع الصلوات لنجاة لبنان من هذه التجرية وإبعاد هذه الكأس، إن كان ما نتداوله في السر والعلن صحيحاً.