بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم– تُقارب العواصم حركة “طالبان” بصفتها أمراً واقعاً وجب التعامل معه من دون أن يعني ذلك اعترافاً بها. في ذلك بعض نفاق، ذلك أن واشنطن فاوضت “طالبان” وليس حكومة أشرف غني وأبرمت معها اتفاق الانسحاب من أفغانستان، بما كرّس اعترافاً بالتنظيم المتمرد وعدم اكتراث بشرعية حكومة مفترض أنها منتخبة. وتشترط العواصم الغربية هذه الأيام التزام الحركة مجموعة من القواعد والمعايير كسبيل لاعتراف دولي دبلوماسي وشرط للإفراج عن الأرصدة المالية في العالم. غير أن ما يصدر عن هذه العواصم لا تدعمه أي صدقية، بل يندرج ضمن خطاب تضليل يهدف إلى إنقاذ ماء وجه دول تلقت هزيمة منكرة في مشروعها الأفغاني الذي لطالما نفخت به منذ عشرين عاماً.
تتحدث لندن وواشنطن وبرلين وباريس وغيرها، بلهجات مختلفة، في شأن الاعتراف بـ”طالبان”. تتراوح الشروط ما بين فتح ممرات ومناطق آمنة للراغبين في الخروج من أفغانستان، مروراً بضرورة احترام حقوق الإنسان، لا سيما حقوق المرأة في التعليم والعمل والمساواة، انتهاء بامتناع أفغانستان في ظل حكم “طالبان” عن التحوّل ملجأ وراعياً للإرهاب. والأرجح أن الواقعية السياسية الخبيثة ستملي على تلك العواصم أن لا تهتم كثيراً بالشقّ الحقوقي الإنسانوي في مطالبها، والتمسك بصرامة بمطلبها المتعلّق بالأمن والإرهاب.
تعرف حركة “طالبان” جيداً أولويات دول العالم، القريبة والبعيدة. يقلق الخوف من أفغانستان الإرهابية روسيا والصين وإيران والهند وباكستان بمستوى يفوق، بحكم الجغرافيا، قلق الدول الغربية البعيدة. والقلق على مستقبل حقوق الإنسان في أفغانستان لن يكون هاجساً ملحّاً للدول المحيطة التي لا تُعتبر مدرسة في هذا المضمار، فيما الغيرة على تلك الحقوق في أفغانستان لن تتجاوز لدى الديموقراطيات الدولية الكبرى مستوى الغيرة على تلك المُنتهكة في كثير من بلدان العالم التي تقيم معها شراكات كبرى، بعضها يوصف بالاستراتيجية.
على هذا، ولمصلحة “طالبان” نفسها، سيسهل للحركة نظرياً أن تقدم للدول القلقة الضمانات التي تريدها لمنع أفغانستان من أن تكون مورّداً لهواجس الأمن والإرهاب. ويفرض تحوّل الحركة المقاتلة المتمردة كياناً مهيمناً على الدولة الأفغانية أن تسلك دروباً تحترم قواعد الدول وقوانين العلاقات الأممية بما يسهّل ويقوي أواصر علاقة البلد مع المنظومة الدولية، وخصوصاً تلك مع الشبكات الاقتصادية والمالية والمصرفية والإغاثية الكبرى في العالم.
غير أن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت حركة “طالبان” ستنجح في تحول كيميائي ضد طبائعها. يتطلب الأمر الانتقال من كيان عقائدي ماضوي متشدد إلى هيكل مرن براغماتي يجيد التعامل مع التحوّل النوعي الذي جرى داخل المجتمع الأفغاني خلال العقدين الأخيرين، قبل أن يتعامل مع شروط دول الجوار وقواعد المجتمع الدولي. ولئن يحاول ذبيح الله مجاهد وبقية واجهات الحركة تقديم صورة مغايرة جديدة عن تلك النمطية التي يعرفها الأفغان والعالم عن “طالبان”، فإن صدقية الخطاب الجديد على المحك. فالتناقض فاضح بين الوعود التي تُقطع لطمأنة أفغانستان والعالم، والممارسات النقيضة التي تتحدث عنها التقارير وتنقل بعضها صور الكاميرات المسرّبة، والتي تجهد “طالبان” لإقناع الرأي العام، بصعوبة، أنها مجرد “تجاوزات فردية متفلتة يجري ضبطها”.
وتواجه حركة “طالبان” تحديين مباشرين. التحدي الأول ورغم خطورته يسهل التعامل معه، يتمثل في تنظيم “ولاية خراسان” التابع لتنظيم “داعش”. التنظيم إرهابي بالنسبة الى العالم أجمع ويحوّل “طالبان” شريكاً للمجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب، ناهيك بأن العداء بين الكيانين يساهم في دعم وحدة الحركة ضد الخصم الذي نشأ أيضاً من انشقاقات داخل حركتي “طالبان” باكستان وأفغانستان. وكان واضحاً أن العمليات التي قام بها التنظيم “الداعشي” ضد مطار كابول استهدفت هيبة حركة “طالبان” وواقع سيطرتها على البلاد أكثر من استهدافها للقوات الأجنبية الراحلة.
التحدي الثاني وهو الأقل سهولة يتمثّل بالجدل داخل حركة “طالبان” نفسها والذي قد تظهر له واجهات دراماتيكية ما زالت المرحلة الانتقالية تواريها. قام صمود “طالبان” وسرّ بقائها على عقيدة دينية سلفية تنهل من الفقه وقوداً لدفع مقاتليها الى “الجهاد” و “الاستشهاد” والتمسك بالقيم التي قامت عليها الحركة وأدت إلى سيطرتها على الحكم عام 1996 بقيادة الملا عمر. ولم يصدر عن مراجع الحركة ما يفيد بأي بأن مراجعة عقائدية فقهية قد تحققت تبرر الانتقال إلى أي تساهل وانفتاح تسعى منابر “طالبان” الحالية إلى تسويقه. وقام مسار الحركة أيضاً على خلطة قبلية تستند على الأغلبية البشتونية مع تسجيل اختراقات نوعية -لم تكن قبل عقدين- داخل مجموعات عرقية أخرى مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان وغيرها. وفي نجاح حركة “طالبان” أو فشلها في التقدم بحكومة متعددة شاملة (وحلّ أزمة وادي بنجشير) ما يمكن أن يوضح مآلات جدل الحركة الداخلي.
وفي ثنايا الجدل المكتوم تنازع ضمني بين “طالبان” الدوحة و”طالبان” قندهار. والمسألة لا تتعلق بالجغرافيا التي عاشت قيادات الحركة في كنفها، بل في النسيج السياسي الذي ستنتهجه “طالبان” وطبيعة خياراتها المقبلة، سواء المستندة الى خبرة مكتبها السياسي في العاصمة القطرية في التعامل مع العالم، بما في ذلك عقد المفاوضات وإبرام الاتفاقات، أم المستندة الى ميراثها وتراثها الميداني العقائدي السوسيولوجي الذي تمت قيادته من قندهار. وليس تفصيلاً أن ينتقل القيادي “الطالباني” البارز الملا عبد الغني برادار بعد عقدين في المنفى من الدوحة إلى قندهار قبل تحركه صوب كابول، بما يعبّر رمزياً عن مسار انتقال قابل للنقاش للحركة من بعد استراتيجي إلى آخر.
والحقيقة أن جدل الدوحة وقندهار تراقبة جماعات الإسلام السياسي جميعها بانتباه وقلق. ففي ترحيب جماعات “القاعدة” و”الإخوان” ودوائرها التابعة بانتصار “طالبان” تعويل على تجربة الحركة وأمل في “استعادة” أفغانستان قاعدة خلفية لانتعاشها المأمول. بيد أن في نهايات هذا الجدل ما قد يشكّل مفاجآت لا تتمناها الإسلاموية التي تتنفس من ماضوية يقلقها ما يفرضه الراهن والمستقبل من واقعية ووقائع ستكون أفغانستان نموذجها الصارخ الجديد.