بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – مرت تونس بعقود طويلة كان فيها من النادر أن تجذب اهتمام العالم إلى غير الآثار والسياحة. كان يسود البلاد هدوء تام، وإن كان أحياناً بطعم الرتابة ولا يسمح كثيراً بالاختلاف في الرأي مع السلطة.
لم تكن تونس عادة في قلب الأحداث الإقليمية أو الدولية.
تغيرت المعادلة منذ 2011 عندما انهار نظام الرئيس بن علي تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية التي شكلت تحولاً تاريخياً في المنطقة والعالم.
ثم كانت الفترة الانتقالية التي عاشتها البلاد خلال العشر سنوات الماضية وما احتوته من تحولات شكلت تارة مبعثاً للأمل وتارة أخرى مصدراً للانشغال واستقرت في نهاية المطاف في منطقة من المطبات انتهت بقرار الرئيس قيس سعيد في تموز (يوليو) الماضي اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور وفرض أحكام استثنائية من بينها تعليق أنشطة البرلمان لمواجهة ما رآه خطراً داهماً على البلاد.
كانت الهزة شديدة بشكل جعل تونس تحتل صدارة الأخبار العالمية أياماً متتالية.
توالت زيارات كبار المسؤولين الأجانب. كانت معظمها من المنطقة العربية والبعض فقط من أوروبا وأميركا وإنْ عوضتها المكالمات الهاتفية.
خلاصة القول إن الاهتمام العالمي بتونس بلغ درجة قل ما بلغها منذ 2011.
للمرء أن يتساءل لماذا كل هذا الاهتمام؟
هناك حقيقة ثابتة هي أن البلدان التي تمر بأزمات حادة تجذب اهتمام الآخرين. وتونس مرت ولا تزال تمر بأزمات حادة. ولكن الأزمات وحدها لا تكفي. لا بد من أن تكون هناك رهانات على المحك بالنسبة للآخرين.
في تونس رهانات إقليمية ودولية بعضها لا يعيه ولا يتخيله التونسيون أنفسهم.
بل إن هناك رهاناً خارجياً سئمه الكثير من التونسيين، وهو المتعلق باعتبار الغرب تونس نموذجاً للانتقال الديموقراطي في إطار ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي. من هذا المنطلق كانت مبادرة الرئيس قيس سعيد رغم ما حظيت به من ترحيب في الداخل مرادفة “للانشغال” و”خيبة الأمل” في معظم العواصم الغربية. نتجت “خيبة الأمل” من اعتبار اللجوء إلى الأحكام الاستثنائية مناقضاً لتطلعات هذه العواصم تجاه التجربة التونسية. والواقع أن التطورات الحاصلة في تونس لم تفاجئ إلا من كان يتابع الوضع من منطلقات نظرية أو إيديولوجية تحجب الواقع المعقد للبلاد. المراقبون الأجانب كانوا كمثل المعلم الذي كان يفتخر بتلميذه النجيب قبل أن يكتشف أن والدَي التلميذ على أبواب الطلاق والطفل المتألق يجوب الشوارع خارج أوقات الدراسة عارضاً خدماته على السواق كي يغسل واجهات سياراتهم استدراراً لبعض النقود.
هناك أيضاً رهان الخوف من تونس وعليها. وهو رهان الجيران القريبين والبعيدين على استقرار الوضع في البلاد وخشيتهم من تمدد التقلبات السياسية، إن هي طالت، إلى خارج الحدود. وهذا أيضاً رهان مفهوم في منطقة كثيراً ما أدى فيها عدم الاستقرار إلى الحروب الأهلية وموجات الهجرة والتهجير إضافة إلى تصاعد الأنشطة الإرهابية.
المخاوف إلى حد كبير مفهومة في وقت اجتمع فيه على تونس أكثر من عامل من عوامل عدم الاستقرار فهي إضافة إلى الأزمة السياسية تواجه خطر العجز المالي وعدم القدرة على تسديد ديونها.
وهناك أيضاً رهان التموقع والاصطفاف حينما يتوجه فضول القوى العالمية والإقليمية لمعرفة ما إذا كانت السياسات الجديدة للنظام لفائدة معسكرها أو معسكر منافسيها. تاريخياً، استطاعت الدبلوماسية التونسية في معظم الأحيان اجتناب الاصطفاف في الخنادق والمعسكرات الخارجية حتى عندما كانت التوازنات دقيقة.
ولكن الرأي العام يتضمن شرائح لا يُلزمها تحفظ السلطة. البعض يجذبهم إغراء الاصطفاف وراء المحاور وآخرون يطلقون النار على الجميع في حروبهم الافتراضية، إلى حد أن المحلل السياسي التونسي الصحبي بن فرج قال ساخراً على فايسبوك: “انطلقوا على بركة الله، ما زالت دولة جيبوتي لنا معها علاقة جيدة….. موش مشكل أيامات ونفسدها”.
يبقى، هل ينفع الاهتمام الخارجي البلاد في شيء؟
قد ينفع من حيث تشجيعه على تقديم المساعدة والدعم للبلاد خلال الأزمات. تجلى ذلك من خلال تدفق المساعدات الطبية وشحنات التلقيحات على تونس في وقت وجيز عندما أعلنت عجزها عن مواجهة الجائحة.
كما أن وجود البلاد تحت المجهر الخارجي قد يجعل القادة والفاعلين في البلاد يعدّلون سياساتهم حتى إن لم يتخلوا عنها تماماً. لكن الاهتمام الخارجي يمكن أيضاً أن يتحول في بعض الحالات ضغطاً من أجل التأثير في القرارات السياسية للبلاد. الأضواء الخارجية المسلطة على تونس ليست بلا أجندات. ذلك جعل الرئيس سعيد يرفض الضغوط الخارجية ويتهم الساعين إليها بالخيانة. آخرون اتهموا “حركة النهضة” بأنها تنتظر مساعدة خارجية لا تأتي.
القليل فقط يقبل بالتحريض المباشر على التدخل الخارجي في شؤون البلاد خلال أية فترة حرجة من تاريخها. ولكن التاريخ الدبلوماسي مملوء أيضاً بالضغوط والأجندات الخارجية المسقطة على البلدان الأخرى، أحياناً بذوق وأحياناً بعنجهية.
وتونس كانت دوماً، حتى خارج الأزمات، عرضة للضغوط المعلنة وغير المعلنة. أتذكر خلال سنواتي في العمل الدبلوماسي في الثمانينات من القرن الماضي كيف كان ينظر إلى تونس في الغرب على أنها مؤهلة للتأثر أكثر من غيرها بالضغوط. ارتباط اقتصادها بالخارج وتواضع مواردها الطبيعية وصغر حجم جيشها إضافة إلى نقطة ضعفها الأخرى وهي طموح أهلها اللامحدود للأفضل بشكل كانت دوماً تهدد استقرارها الاجتماعي.
مثل هذه العوامل التي لا تزال إلى حد كبير متضافرة في تونس اليوم قد تشكل عائقاً أمام القرار المستقل. ولكنها ليست تحدياً مستحيلاً أمام الدبلوماسية التي تعرف كيف توازن بين الاعتبارات الواقعية والمبدئية.
في تعامله مع الغرب، لم يكن الحبيب بورقيبة يتصرف على أساس أن قلة الموارد الطبيعية أو تواضع الإمكانات العسكرية نقطة ضعف، بل بالعكس. كان يستعمل هذه الاعتبارات ليبرهن صواب خياراته التنموية ولتشجيع الدول العظمى على تحمل مسؤوليتها في مساعدة تونس. وكان له في معظم الأحيان ما أراد. نالت تونس الدعم ونال هو سمعة رجل الدولة الحكيم والمحب للسلام.
الزمن الحالي ليس زمن بورقيبة وإن كانت دروس كثيرة من الزعيم الراحل مفيدة.
يجد صاحب القرار نفسه مضطراً للتوفيق بين وجهات النظر الخارجية المتناقضة. ولكنه أيضاً مجبر مهما فعل للانتباه قبل كل شيء إلى الرأي العام الداخلي الذي له طموحاته وأهوائه بغض النظر عن اهتمامات الخارج وأجنداته.
لا يمكن أن يغفل الساهرون على تسيير دفة الحكم في تونس عن الأضواء الخارجية المسلطة عليهم، ولكن تركيزهم الأول لا يمكن أن يكون إلا على ملامح وجوه التونسيين والتعابير البادية على وجوههم وهم يسعون الى الرزق رغم المصاعب والأزمات. تبقى تلك هي البوصلة التي لا يمكن لهم أن يحيدوا عنها حتى وإن لم ينسوا أبداً أن بلادهم ليست جزيرة.