بقلم: عاطف الغمري – الخليج الإماراتية
الشرق اليوم- ربما تستغرق متابعة أي تطور في العلاقة بين أمريكا وروسيا بعض الوقت، بعد البداية التي تمثلت في قمة جنيف بين رئيسي البلدين جو بايدن، وفلاديمير بوتين؛ لأن الانتقال من مرحلة التوتر الذي بلغ أشده في الفترة الأخيرة، إلى مرحلة ربما يأمل كلاهما أن يسودها الهدوء والتعاون، أمر ليس هيناً، خاصة في إطار علاقات القوى الكبرى.
الآن هناك حالة انتظار حتى تتضح ملامح استراتيجية جديدة لكليهما، لإدارة العلاقات بينهما وما إذا كانا يريدان بالفعل تهدئة الصراع لصالح التعاون الذي يعود عليهما بالمنفعة والفائدة المشتركة أم لا.
إن مصطلح المنفعة بديلاً للخلاف الأيديولوجي الذي كان المحرك الرئيسي للصراع بينهما في سنوات الحرب الباردة، إنما هو تعبير عن رؤية قديمة كان شيفرنادزه، آخر وزير خارجية للاتحاد السوفييتي قد صاغ عباراتها إثر انتهاء الحرب الباردة عام 1989، بقوله إن المنفعة للجانبين حلت محل الأيديولوجية، كمحرك لتوجهات السياسة الخارجية.
صحيح أن الأيديولوجية لم تعد مصدر التأثير في السياسة الخارجية لكليهما، لكن الظروف التي جدت على العلاقة بينهما، أعادتها إلى التوتر، كما أتاح ضعف روسيا داخلياً، الفرصة للولايات المتحدة لمحاولة تحقيق أقصى منفعة لها، من خلال مد نفوذها إلى المناطق المحيطة بروسيا، وتصعيد أمريكا، وحلف الأطلسي من وجودهما العسكري على الحدود مع الدولة الروسية، خاصة في عدد من دول «حلف وارسو» السابقة، ودول جمهوريات البلطيق، وهو ما ردت عليه روسيا بدفع قوات إلى مقربة من الحدود الأوروبية، ثم اشتعال الأزمات بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والأزمة حول أوكرانيا.
ونتيجة لهذه التطورات، أطلقت الولايات المتحدة تعبير «المنافس الاستراتيجي» على روسيا، مبتعدة عن استخدام المسمى القديم الذي كان يطلق على العدو السوفييتي، ولاشك في أن التحول من تعبير العدو إلى المنافس، مرجعه إلى تغيير خريطة الحرب الباردة، عندما كان كل منهما متأهباً لملاقاة الآخر عسكرياً، والحد من وجوده في مناطق نفوذه، وحيث لم تكن هناك أي مساحات لتعاون مشترك، وهو ما أصبحت له الآن، ضرورات سياسية.
وعلى الرغم من أي خلافات، فإن الأمريكيين والروس على حد سواء، لا يريدون أي مواجهة عسكرية بين البلدين لا حاضراً ولا في المستقبل، فروسيا مشغولة بإعادة بناء نفسها في الداخل اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وإقامة بنية أساسية تنطلق منها إلى علاقات متنوعة في مناطق العالم المختلفة، ومنها تلك التي اعتبرتها أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة، ملعبها الرئيسي.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن سنوات الصراع مع السوفييت كانت ثقيلة عليه، ومكلفة بسبب ما تقتطعه من ميزانيات الاحتياجات الاجتماعية للمواطن، والتي جعلته وقتها يقبل بتأجيل المطالبة بتوفير احتياجات أساسية، لاقتناعه بأن الصراع مع الاتحاد السوفييتي، أولى بتوفير موارد كبيرة لإدارته، خاصة أن كلاً من الدولتين كانت تهدد الأخرى بتدميرها نووياً، هذا بخلاف العبء الثقيل والنفسي لصراع يهدد فيه كل منهما الآخر، مستنداً إلى توفير ميزانيات كبيرة، من أجل هذا الصراع أساساً.
وحين انتهت الحرب الباردة، فإن المواطن الأمريكي اعتبرها اللحظة التي حانت لقطف ثمار السلام حسب التعبير الذي استخدمه المواطن الأمريكي Reace Devidine، لكن ذلك لم يحدث، وأصابه الشعور بخيبة أمل؛ بل إن مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية زادت، وهو ما انعكس على اتساع الفجوة في الداخل بين الأكثر ثراء والأقل دخلاً، ثم ما لحق بذلك مؤخراً من تطورات مفاجئة للأزمة الصحية، التي أحدثها وباء «كورونا»، والتي تحتاج إلى تمويل باهظ لمواجهتها، وتوفير الموارد للارتقاء بإمكانات الحماية الصحية لعامة الشعب، وغير ذلك من تبعاتها ومنها علاج مشكلة البطالة وتوفير الوظائف، ونتيجة ذلك كله صار الشعور الداخلي في أمريكا وروسيا، أكثر ميلاً نحو التهدئة، وعدم الدخول في صراعات جديدة.
إن هذا لا يعني التوقف عن المنافسة بمعناها الاستراتيجي، والضغوط المتبادلة للتأثير في الأوضاع الداخلية في كلتا البلدين، وهو ما عبر عنه بايدن بقوله، لبوتين، إنه سيتخذ الإجراء المناسب، لو حدثت منه تصرفات ضارة بالولايات المتحدة، منها على سبيل المثال الحرب الإلكترونية، والتدخل في أوضاع داخلية، مثلما حدث في الانتخابات الرئاسية السابقة في الولايات المتحدة.
إن الوضع حتى الآن يشير إلى أن بايدن سيستمر في إنجاز شعاره من أجل قيادة أمريكا للعالم، بينما يمضي بوتين من ناحيته في تعظيم دور روسيا عالمياً، وتلك نقطة لا تلغي استمرار التنافس بينهما، ولكن يبقى أن كليهما على وعي تام بالظروف المحيطة به، داخلياً وخارجياً، باحتياجه للآخر ولو بإيجاد مساحات يتم الاتفاق عليها، بأن يكونا متعاونين وليس متنافسين.