بقلم: عبد المنعم سعيد – المصري اليوم
الشرق اليوم – شاءت الأقدار أن تكون الولايات المتحدة هي أكثر الدول التي عشت فيها وزرتها خلال ما يقرب من ٤٤ عامًا ممتدة من ٢٩ سبتمبر ١٩٧٧ حتى ٢٣ أغسطس ٢٠٢١. ذات الأقدار أتاحت الاختلاط بنوعيات مختلفة من الشعب الأمريكي تراوحت ما بين ولاية إيلينوي فيما يسمونه وسط الغرب إلى تكساس في الجنوب إلى ماساتشوستس في الشمال الشرقي أو إقليم انجلترا الجديدة، وبالطبع واشنطن العاصمة. كانت هذه هي المناطق التي عشت فيها لفترات تعدت العام أو ما هو أكثر، وكان الهدف الدراسة أو العمل أو العلاج، ولكن ما كان أقل من ذلك في الزمن تقلب ما بين ولايات إنديانا وميسوري وتينيسي وكاليفورنيا، وباختصار تعرفت على أمريكا وأهلها ما بين المحيطين، الأطلنطي والباسيفيكي.
وبحكم أن الدراسة كانت في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية، فكان لابد من الغوص في التاريخ الأمريكي منذ لحظة الاستيطان الأولى، حتى الثورة الأمريكية، ومن بعدها الحرب الأهلية، ثم الحربين العالميتين وما بينهما، حتى استقرت أمريكا على عرش النظام الدولي في صورته القطبية الثنائية، وحتى صورة القطب الواحد بعد نهاية الحرب الباردة، ما جعل من واشنطن كعبة العالم المعاصر.
لم تكن هذه النتيجة مفاجئة عند حدوثها مع سقوط حائط برلين عام ١٩٨٩، وقبلها بعامين نشرت كتابًا بعنوان «العرب ومستقبل النظام العالمي»، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وفيه كان واضحًا لي بالدراسة أن الشروخ الجارية في الاتحاد السوفيتي لا تجعله قابلًا للاستمرار ضمن فصيلة الدول العظمى. لم أكن أعرف وقتها أن التاريخ يخبئ مفاجأة كبرى أخرى، وهي أنه بعد ما هو أكثر قليلًا من عقد زمان جلست فيه الولايات المتحدة على قمة العالم، تعرضت نيويورك وواشنطن لهجمة بربرية إرهابية وضعت البذور الأولى لما سوف يأتي من شروخ في الدولة العظمى الوحيدة آنذاك، وهذه احتاجت مثابة عقدين لكي تصل إلى النقطة التي وصلنا إليها الآن، حيث صارت الشروخ فوالق عميقة.
كان ذلك الانطباع هو ما رأيته في رحلتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة، والتى استغرقت خمسة أسابيع، دارت ما بين مدينة هيوستن (تكساس)، عشرة أيام، وبوسطن (ماساتشوستس)، خمسة وعشرين يومًا. كان قد مر أكثر من العام على زيارتي الأخيرة، التي كانت فيها «الجائحة» قد تركت أمريكا كالسفينة التي تعثرت بها رياح عاصفة تركتها كلها شبيهة بالمناطق التي تمر بها الأعاصير العنيفة كتلك التي أتت لنا أسماؤها من «كاترين» إلى «ساندي»، التى أعطت للإنسان أول الأشكال المصورة ليوم القيامة.
وقتها كان الرئيس ترامب هو الذي يقود السفينة الأمريكية إلى حالة من الانقسام والشروخ العميقة، التي أصبحت بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية فوالق كبرى في مشروعية النظام الديمقراطي وقدرته على تحقيق الالتئام بقوة الإرادة الشعبية. بشكل ما، فإن «كوفيد» لم يكن فقط وباء هائلًا، وإنما كان كاشفًا عن كسر كبير ظل يتسع مع أحداث 6 يناير الماضي حيث جرى الاعتداء المُشين على الكونجرس الأمريكي ذاته.
فشل رئيس الدولة- ترامب- في حضور حفل تنصيب منافسه الديمقراطي – بايدن- وقبلها كان الرئيس مُصممًا على أنه فاز فوزًا كاسحًا. زاد من الأمر أن حديث ترامب عن تزوير الانتخابات لم يتوقف، وأُضيف إلى الانقسام حول أمور كثيرة انقسام آخر حول ما إذا كان ضروريًا تناول اللقاح أم لا، وما إذا كانت «الكمامة» لازمة أم لا.
خرج المرشحون للمقاعد التكميلية لحكام الولايات مقاعد مجلسى النواب والشيوخ يعلنون صراحة عزمهم على وقف كل أشكال الفرض والإلزام على مواطنين أحرار. أصبح الخلاف الديمقراطي راجعًا من الفروع إلى الأصول، ولم يعد حول النفوذ الحزبي أو السياسي بصفة عامة، وإنما حول أصالة الفكرة الديمقراطية ذاتها. وإذا كانت مواجهة ترامب للبلاء مرتبكة ومضطربة، ووضعت الولايات المتحدة كلها في مقدمة دول العالم من حيث الإصابات والوفيات، فإنها في عهد القيادة الحكيمة والمنضبطة للرئيس بايدن لم تكن ناجحة، وبعد أن وعد الرئيس بتلقيح ٧٠٪ من الشعب الأمريكي، مع مطلع شهر يوليو المنصرم، فإن ما تحقق هو ٥١.٥٪ في ٢٢ أغسطس الجاري.
لم يعد النظام الديمقراطي الأمريكي وحده موضع التساؤل، وإنما معه كفاءة النظام الفيدرالي، والنظام الصحي، والترجمة العملية للطاقة العلمية والتكنولوجية في شكل سياسات نجحت سابقًا في الوصول إلى القمر، وإذا بها الآن عاجزة عن التعامل مع كارثة ممتدة. وكأن هذه الحالة تحديدًا ظهرت في حاجة إلى الاختبار الحاد الذي أتى مع الخروج الأمريكي من أفغانستان. لم يكن الخروج في حد ذاته مفاجأة، فقد كان ذلك هو ما اتفق عليه الرئيس ترامب مع طالبان، أن تخرج القوات الأمريكية ومعها حلفاؤها في حلف الأطلنطى، مقابل اتفاق طالبان مع الحكومة الأفغانية المنتخبة حول المشاركة السياسية في إدارة البلاد.
ما كان مفاجأة حقًا هو إعلان بايدن عن تاريخ إتمام الانسحاب في ١١ سبتمبر ٢٠٢١، بعد عشرين عامًا من الحادثة الفاصلة في التاريخ الأمريكي المعاصر التي أدت إلى غزو بلدين- أفغانستان والعراق- وتكلفة تجاوزت تريليونين من الدولارات ومعهما قائمة طويلة من آلاف الموتى وعشرات الآلاف من الجرحى. لم يكن مشهد الخروج مشرفًا بأي معنى، ولا نتائجه فيما يخص الأفغان والأمريكيين ومعهم الحلفاء. وهنا فإن بايدن، الذي كان قبل أسابيع يتصاعد التأييد الشعبي له، إذا به يتراجع بسرعة في استطلاعات الرأى العام، ومعها انقسام وفالق أمريكي آخر، ولم يكن ذلك في الداخل الأمريكي وحده، وإنما في الخارج، حيث كانت هناك طعنة كبيرة للسمعة والقدرة. الحلفاء في أوروبا تابعوا المسيرة الأمريكية باندهاش شديد، ولم تكن هناك مبالغة في قول المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إن الولايات المتحدة لديها سياسة خارجية كل أربع سنوات، وفي الواقع فإن ذلك ينطبق على السياسة الداخلية أيضًا.
كانت الجراح والانقسامات والفوالق عميقة، ولا يبدو أن فيها رجعة، وما ذكره الرئيس بايدن في الحملة الانتخابية أنه في سبيله إلى عودة الولايات المتحدة إلى قيادة العالم، ولم يكن الخروج من أفغانستان والشرق الأوسط عامة أفضل التعبيرات عن هذه القيادة. الواضح أن الدولة العظمى الوحيدة في العالم تعاني الكثير الذي يطعن في قدرتها على تجاوز الأزمات الداخلية والخارجية في المدى المنظور.
ليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة قد خرجت كلية من قائمة القوى الكبرى، كما أن الولايات المتحدة عاشت في أزمات كبرى تاريخية مثل فترة ما بعد الثورة الأمريكية والحرب الأهلية والكساد العظيم، ونجحت في تجاوزها. ولكن التجاوز له أصول تبدأ من استرداد الثقة في الداخل سواء بالنخبة والقيادات، أو في فكرة القيادة ذاتها وما لها من تكاليف. وهذه قصة أخرى!