الرئيسية / مقالات رأي / جذور فكرة التفوق الأوروبي

جذور فكرة التفوق الأوروبي

بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة “الخليج”

الشرق اليوم – اقترنت فكرة التفوق الأوروبي بالشعور العام، الذي ساد في البيئات السياسية والثقافية الأوروبية، بأن المدنية الجديدة التي صنعتها أوروبا، منذ بدء نهضتها، باتت كونية تفرض أحكامها على أصقاع العالم كافة؛ بحيث تتهاوى أمام صعودها وزحفها جميع نماذج الحضارات والمدنيات الموروثة عن عهود سابقة. مع ذلك، لا يمكن لمثل هذا الشعور بالتفوق الكاسح أن يكون وليد معطيات العصر الحديث، أياً تكن أهميتها، لولا أنه مسبوق بشعور نظير موروث عن حقب سابقة مهد للأخير وعززه وسوّغ له. والحق أن البحث في جذور هذا الشعور التاريخية يطلعنا على صور منه ضاربة في القدم ترفع الإبهام عن سر تحوله إلى ما يشبه المعتقد في الوعي الجمعي الأوروبي؛ حديثه والمعاصر.
تُعرّف أوروبا الحديثة نفسها، بألسنة مفكريها ومؤرخيها، بأنها وريثة حقبتين تاريخيتين من ماضيها، واستمرار لهما في الآن عينه، هما: الحقبة اليونانية-الرومانية (الأولى) الكلاسيكية والحقبة المسيحية الوسطى، وأن تحولاتها الكبرى التي شهدت عليها، منذ القرن السادس عشر للميلاد، وصنعت شخصيتها الحديثة إنما انتهلت مصادرها وطاقة انطلاقتها من معطيات تينك الحقبتين المرجعيتين. إنْ تركنا، جانباً، حقيقة أن هذه السردية الأوروبية الحديثة عن مصادر تكوين أوروبا تتجاهل، تماماً، ما كان للحضارة العربية الإسلامية من أثر في مسيرة تاريخ أوروبا الوسيطة والحديثة، وما استفادته الأخيرة من مكتسبات تلك، سنلحظ أن هذه السردية تنقسم، عملياً، إلى سرديتين منفصلتين وتتركب منهما:
أُولاهما تُسْقِط الحقبة الوسطى وتشدد على الحقبة اليونانية-الرومانية الأولى بوصفها الإطار المرجعي لأوروبا الذي صنع الاتجاه إلى إعادة وصل الصلة بنهضة أوروبا الحديثة. وكم هو دال، هنا، مفهوم النهضة نفسه Renaissance؛ المفهوم المركب من الميلاد Naissance وإعادة Re ذلك الميلاد. فكأن أوروبا ولدت في تلك اللحظة الإغريقية-الرومانية الأولى، ثم أصابها سُبات، وأعيدت ولادتها مع النهضة. أما سبب ذلك السبات الذي أصابها وقَطّع أوصال استمراريتها – في منطق هذه السردية- فسيطرة المسيحية في العصور الوسطى. وغير خاف أن المقالة العَلمانية في الفكر الأوروبي تستند إلى هذه السردية وتُشيعها، تماماً مثلما كان تراث النهضة، في القرن السادس عشر، يقيم الدليل عليها في إنتاجه الأدبي والفني.
وثانيهما، وهي التي تعنينا هنا؛ حيث مبناها على القول إن القيم الدينية هي التي صنعت حضارة أوروبا والغرب: التسامح، والإنسانوية، وروح العمل والإنتاج ، والحرية، والفردية… إلخ. إن جذور القيم هذه، في السردية تلك، كامنة في التعاليم الدينية، لذلك لم يتعسّر على أوروبا استلهامها والبناء عليها. وعليه، يتعاظم في هذه السردية فعل تلميع الإصلاح الديني وتظهير دوره في صناعة المدنية الأوروبية نظير تلميع النهضة وتظهير دورها في التقدم في السردية الأولى.
على أن السرديتين، المتعارضتين في الداخل الأوروبي، سرعان ما تتوحدان فتتركبان – من جديد- في سردية واحدة ما إن تضع أوروبا نفسها في مواجهة آخَرِها أو آخَرِيها. وهكذا يميل حتى من كانوا علمانيين مناهضين للكنيسة إلى توسل الدين للدفاع عن أوروبا. ولم يكن صدفة أن هذا المنحى تعاظم في الحقبة الاستعمارية لأوروبا؛ فلقد شَجعت الدول الاستعمارية الأوروبية- وهي علمانية – حركات التبشير الديني، التي كان يقوم بها في المستعمرات الفرنسيسكان والدومينيكان والإنجيليون، لتيسير عملية إخضاع الشعوب المستعمَرة. وليس من المستغرب، بتاتاً، القول إن الحامل على ذلك التشجيع وعلى تلك العملية من التواطؤ الكولونيالي لم يكن المصلحة فحسب؛ بل أيضاً فرض المعتقد القسري على الشعوب المستعمَرة وإدماجها في منظومة القيم الأوروبية.
شعور أوروبا العارم بمعتقدها- وهو الذي ما بَرِح يتجدد حتى يوم الناس هذا (خاصة في أطوار التأزم أو المواجهات) – كان ولا يزال يشكّل وقوداً لفكرة التفوق الحضاري التي تسكُنها وتستبد بوعيها، وتحدد أنماط علاقاتها بغيرها من الأمم والثقافات والدوائر الحضارية في العالم الحديث والمعاصر. لقد جَعل كثير من فلاسفتها ومفكّريها – آخرهم هيغل – معتق عصارة نوعية للأديان والثقافات ومثالها ومحطتها الأعلى. وانطلاقاً من اليقينية هذه، قرأت ما قبلها وما بعدها ودَمَغَتْهُ بالدّونيّة وسلطت عليه لغة التشنيع والتحقير. وما سيرة أوروبا مع الإسلام والمسلمين غير مثال جزئي لتلك النظرة الاستعلائية النابعة من الشعور بالتفوق الحضاري والديني.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …