بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- “نعم للحياة المشتركة”.. هذا ليس شعاراً لأحد الاجتماعات أو المؤتمرات من تلك التي تنقل لنا وسائل الإعلام أخبارها كل يوم، من دون أن تجد له تطبيقاً فعلياً في حياة البشر، بل هي جملة تزيّن مدخل مدرسة في مدينة القدس، تجمع طلبة مسلمين ويهوداً في قاعات دراسية مشتركة لا تميّز بين طلابها على أساس ديني أو قومي أو عرقي. وربما لم يسمع كثير منا بوجود مدارس كهذه، بخاصة أن الأخبار التي تصلنا من القدس عادة لا تتعدى حديث الحرب والقتل والموت، ولكن هذا لا ينفي وجود أناس أدركوا أنه لا سبيل لاستمرار الحياة سوى قبول الآخر والعيش معه، وتجاوز تاريخ الخلافات الدينية والسياسية نحو مستقبل مختلف.
بإمكاننا تصوّر ما سيكون عليه الجيل الذي ستخرّجه هذه المدرسة، والمقارنة بينه وبين أجيال ستتخرج من مدارس أخرى لا تقبل في صفوفها إلا أبناء العقيدة الواحدة، لتنشئهم على أنها وحدها العقيدة الصحيحة، وأن كل من لا يؤمن بها كافر يجوز قتله وإلى النار مصيره. فكيف سيكون مستقبل هؤلاء الأطفال وغيرهم على امتداد الوطن العربي وحتى في مختلف أرجاء العالم؟
تشكو ثقافتنا المعاصرة اليوم، محلياً وعالمياً، من ويلات الحرب والتمييز والإقصاء على كل المستويات الدينية والسياسية والاجتماعية، حتى لم يعد للحوار الذي نحن بأمسّ الحاجة إليه، مكان في جدول صراعاتنا غير المنتهية، والتي أوشكت أن تأكل اليابس بعدما أكلت الأخضر فينا. وما دعاني اليوم إلى تذكر هذه المدرسة هو فكرة جمع المسلم واليهودي (على سبيل المثال لا الحصر) ضمن إطار علمي وإنساني واحد في مكان عرف الكثير من الحروب عبر التاريخ، وهذا ما جدّد رغبتي في الحديث عن العلاقة بين الأديان، والإبراهيمية منها على وجه التحديد، لكونها نزلت ونمت في أرضنا. لكننا وعلى الأرض ذاتها، أرقنا الدماء باسم هذه الأديان رغم أن مصدرها واحد.
يثبت التاريخ أن العامل الديني كان – للأسف – الأكثر حضوراً في معظم الصراعات التي عرفتها البشرية، كسبب مباشر في أحيان كثيرة، أو كعامل يدعم ويبرر أسباباً أخرى: سياسية أو اقتصادية أو إثنية. وربما من الممكن إيجاد تبرير مقبول لهذه الحالة في أزمنة ما قبل ظهور الديانات التوحيدية، ولكن ما الذي يجعل هذا النزاع مستمراً، بل وأشدّ وطأة بين ديانات جاءت من مصدر واحد لا خلاف عليه، ونادت بقيم ومبادئ متشابهة قد يصل بعضها الى حد التطابق، ويكاد يكون الاختلاف الوحيد بينها هو في طريقة التواصل مع الخالق، فيتفرّد كل دين بشعائره ومظاهره؟ لا بدّ من أن العلّة ليست في الأديان نفسها، لكنها في المصالح التي سيّرت، وما زالت تسيّر من يستغل الدين ويتلاعب بمصير البشر.
إن نظرة سريعة على التاريخ ستكون كافية لإثبات أن معظم أسباب الصراعات الدينية ارتبطت بأهداف سياسية ألبست التنافس على السلطة والقوة لبوس الدين، فالدين هو العامل الأقوى الذي يمكن من خلاله التحكم بالشعوب التي تعتبره جزءاً رئيسياً من هويتها، ومن الطبيعي أن تدافع عنه إذا ما أحست بخطر يتهدده، وبالتالي يهدد وجودها المرتبط به، وهنا يأتي دور السياسة في الدفع بالشعور بهذا الخطر عبر صناعة العدو وتصويره كأنه يهدد وجودها ويريد إلغاءها، هكذا تُصنع الحروب وتستمر ويفقد الناس أرواحهم وسلامهم في سبيل تحقيق مصالح وغايات شخصية أو أيديولوجية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
لكن.. وعلى المقلب الآخر، لا يمكن إنكار الأرضية المشتركة للديانات الإبراهيمية الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية)، والتي يمكن بناءً عليها إقامة حوار فاعل مدّعم بأسس ثابتة، وقادرٍ على تأسيس السلام المتكامل الذي تطمح البشرية لأن تنعم به، بخاصة أن صناعة السلام واجب مقدّس لا يتنكر له أحد من المؤمنين بهذه الأديان، فهي في جوهرها كما تشير عالمة النفس الأميركية رينيه جارفينكل: “ملتزمة العمل لأجل العدل والسلام، وتمتلك من الإطارات والعمليات الراسخة ما يمكّنها من القيام بذلك”. ومن هنا فإن الحوار بين الأديان ليس مجرد جمهرة ثقافية معنوية، أو تعبير خجول عن حسن النيات والأمنيات، بل هو السبيل المهم لنتجاوز الفهم السطحي لبعضنا بعضاً، ولنتمكن من العثور على ما يجمع بيننا ويوحّدنا فنأخذ به، ومن التحاور في ما نختلف حوله حتى نستطيع قبوله ثم نتجاوزه، لنصل إلى أن التبادل والتكامل، وليس الصراع، هو أصل العلاقة بين الجماعات البشرية المتنوعة.
والحوار بحد ذاته قيمة مثلى، لا أظن أن عاقلين يختلفان حولها، لكن لا بد من الاعتراف بوجود عوائق كثيرة تقف أمام أي دعوة لتفعيل حوار الأديان وتكريس دوره في السلام العالمي، بعض هذه العوائق ذاتي وأكثرها تاريخي، فهناك فهم سائد لدى فئات واسعة من المؤمنين بأن أصول عقائدهم تتناقض مع عقائد المختلفين عنهم، بالإضافة إلى أن جماعات دينية كثيرة تحجم عن المشاركة في حوار كهذا اعتقاداً منها بأنه محرم، وهنا لا بد من تأكيد الدور المهم الذي يلعبه رجال الدين في توضيح مشروعية الحوار بين العقائد، بل ضرورة السعي له والعمل على تحقيقه، ما دام أداة يمكن أن تسهم في تحقيق ما أمر به أو دعا إليه.
أما العوائق التاريخية فترتبط غالباً بالأمثلة التي تملأ كتب التاريخ، عن شواهد ووقائع كثيرة تدل الى أن أصل العلاقة بين الأديان كان محكوماً للعداوة والصراع أكثر منه للتقارب والحوار، وأن الفشل سيكون مصير أي دعوة تتطلع إلى تحقيق التآخي الديني وقبول الآخر. لكن التاريخ أيضاً، حافل بالوقائع والشواهد التي أُغفلت عن سوء نية أحياناً، أو عن سوء تدبير وقراءة خاطئة للتاريخ أحياناً أخرى، والتي تثبت أن حوار الأديان كان حاضراً كصراعها وأكثر، وأن الدعاة له لم ينقطعوا عبر تاريخ هذه الأديان، واستطاعوا أن يواجهوا دعاة العنف وأعداء التسامح الديني حتى كلفهم ذلك التضحية بحياتهم أو النفي عن أوطانهم في كثير من الأحيان.
ولقد ابتُلي ديننا الإسلامي، كما الديانات الأخرى، برجال دين كثيرين أشاعوا أن العنف هو أفضل طريقة لإحلال شرع الله في الأرض، متعمّدين الخلط بين الإرهاب الذي هو جريمة إنسانية في كل الشرائع والعقائد، والجهاد في سبيل الله بوصفه واجباً شرعياً له شروطه وأحكامه وحدوده. ورغم ميل البعض إلى التقليل من عدد هؤلاء المتطرفين ومن خطورة تأثيرهم، إلا أن الوقائع التاريخية تشير الى قدم وجودهم واستمراريتهم إلى اليوم، وهذا على الأقل ما يظهر في سلوك جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، التي يؤكد أنه لا يمكن الركون إلى نياتها لبناء مستقبل يقوم على السلام مع الآخرين، بل لقد رسم قادة هذه الجماعات و”مفكروها” صورة عن الدين الإسلامي جعلت الغرب يسمه بالإرهاب ويتردد كثيراً قبل أن يفكر في الحوار مع أتباعه، رغم كل الجهود التي تُبذل في هذا الإطار، وليس أدلّ على ذلك من وجود ثقافة رفض الآخر داخل هذه الحركات نفسها، وسيادة مبدأ التخوين والتكفير بين صفوفها حتى.
وفي سبيل البحث عن مخرج من هذا المستنقع الذي يعوق فرص الحوار الحقيقي والفاعل بين الأديان، ومن ثم بين الشعوب والدول، لا بد من اللجوء إلى العلمانية الإيجابية التي تفصل الدين عن السياسة بالكامل، وتحافظ على دور كليهما في الوقت ذاته، فلا تسمح للسياسة باستغلال المعتقد لتحقيق أهدافها، ولا تدع مجالاً لاستخدام الدين من أجل إقصاء الآخر أو إفساح المجال لتوليد الضغينة والتطرف والحروب بكل أشكالها. وهذا ما يتطلب بداية إعادة تعريف مفهوم العلمانية الإيجابية ونفي تهمة عدائها للدين، تلك التهمة التي ما زال أنصار الإسلام السياسي يستخدمونها لتكفير كل من يخالفهم، أفراداً وجماعات وأنظمة سياسية.
كما يتطلب تفعيل الحوار بين الأديان الاعتراف التام بحرية المعتقد والتدين، ولقد كان هذا النهج موجوداً في الدين الإسلامي منذ ظهوره وانتشار دعوته. يذكر الباحث التاريخي اليهودي مارك كوهين أن الشعب اليهودي مثلاً، عاش في ظل الإسلام محفوظ الحقوق والمواطنة بغض النظر عن اختلاف العقيدة، واستطاع تطوير ثقافته وعاداته ضمن مجتمع إسلامي بغالبيته، بل لقد أسهم في حضارة هذا المجتمع ومدنيّته، بخاصة في العلم والفلسفة والاقتصاد. ولا غرابة في ذلك، إذ إن الدعوة إلى التآخي والسلام مع بقية الأديان كانت مما أوصى به القرآن الكريم والأحاديث النبوية على حد سواء، مع التأكيد أن الأصل في البشرية هو التنوع (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، غير أن الاعتراف بهذا التنوع لا يمكن أن يتحقق إلا بشرط إسقاط فكرة التمييز العقائدي، وتعزيز احترام حقوق الإنسان على أساس الحرية والعدالة والمساواة.
من ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلى الدور الحاسم الذي تلعبه وسائل الإعلام في دعم حوار الأديان أو العكس، ويمكن القول إنها ما زالت حتى اليوم دون المستوى المطلوب منها في هذا الإطار، فأخبار الحروب والنزاعات تُنقل إلينا لحظة بلحظة، في حين لم يولِ الإعلام الاهتمام الذي ينبغي أن يوليه – على سبيل المثال – بنجاح المساعي التي قام بها الإمام محمد أشافا والقس هوجيمس وويو في نيجيريا طوال عقد من الزمن لصنع السلام في ذلك البلد بعد مقتل عشرات الآلاف من المسلمين والمسيحيين في نزاعات شهدتها مختلف مناطق البلاد.
وفي الحقيقة.. لقد شهد العالم ولا يزال جهوداً مدعومة من مختلف الديانات لتعزيز التواصل بينها، ففي عام 2010 أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة أسبوع الوئام العالمي بين الأديان، وذلك بهدف تعزيز التفاهم المتبادل والانسجام والتعاون بين الناس، من خلال كنائس ومساجد ومعابد العالم وغيرها من أماكن العبادة، على أساس طوعي ووفقاً للقناعات والتقاليد الدينية الخاصة بكل دين، وكان هذا القرار قد جاء بناءً على اقتراح من الملك عبد الله الثاني لتعزيز السلام الثقافي ونبذ العنف انطلاقاً من فهم عميق لدى أبناء منطقة الشرق الأوسط لمعنى التعايش وأهميته، بخاصة أنها أول من عرفه واحتضنه، كما كانت أكثر من نال الأذية من غيابه واستمرار النزاع فيها بسبب خلافات دينية لا أصل حقيقياً لها.
ولا أنسى هنا ذكر وثيقة الأخوة الإنسانية التي تُعدّ بحق أحد أهم الجهود العظيمة وغير المسبوقة في إطار حوار الأديان، تلك الوثيقة التي كُتبت ووُقعت عام 2019 بيدي أهم شخصيتين دينيتين على مستوى العالم، بابا الفاتيكان فرانسيس وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، وذلك في احتفالية عالمية كبرى استضافتها دولة الإمارات العربية المتحدة برعاية الحكومة الاتحادية وعلى أرض أبو ظبي، ومع أن توقيع الوثيقة حظي باهتمام إعلامي وسياسي وثقافي كبير في وقته، إلا أنه ـ وكما كل هذه المبادرات ـ سرعان ما تغيب عنه المتابعة الإعلامية أو السياسية المطلوبة، كما أن متابعة المفكرين ومراكز الأبحاث لهذه الوثيقة ما زالت دون المستوى المطلوب، وبهذه المناسبة أود أن أذكّر بكتاب قرأته لأحد كبار مستشاري إمام الأزهر الأستاذ محمد عبد السلام الذي دوّن هذه الوثيقة في كتابه “الإمام والبابا والطريق الصعب – شهادة على ميلاد وثيقة الأخوة الإنسانية”. وبعد اطلاعي على الكتاب تعرفت الى المراحل الدقيقة والصعبة لإعداد نص هذه الوثيقة التي تعتبر الأهم عبر تاريخ الديانتين، ولقد ساهم كتابه في تعريف المتابعين من كل ديانات العالم بالدور الإنساني العظيم الذي بذله البابا وإمام الأزهر والحاخام بروس لوسيج الذي انضمّ إليهم لاحقاً، لتكون وثيقة الأخوة الإنسانية بياناً عالمياً لتأكيد مواجهة التطرف الفكري وتعزيز العلاقات الإنسانية بين الأديان والعقائد جميعها من دون استثناء. وفي الحقيقة، فبعدما قرأت هذا الكتاب القيّم، أنصح بالاطلاع عليه وفهم مضمونه، لقد أدركت الكثير من التفاصيل وجالت في خاطري الكثير من الأفكار التي ما كان إدراكها ممكناً لو اكتفيت بمشاهدة الخبر سريعاً على وسائل الإعلام.
وعلى الرغم من الأهمية العظمى لوثيقة الأخوة الإنسانية، إلا أن اللقاءات لم تستمر ولم تنعقد المؤتمرات الدولية بخصوص حوار الأديان، ولم نلمح أي تقدم يتبع توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، والأمر ذلك ربما يعود الى الحكومات العربية والإسلامية التي لم تفكر جدياً بهذا الحوار، سواء كان عن قصد أو عن غير قصد.
أذكر أني رأيت في إحدى جولاتي بين الحارات القديمة في مدينة دمشق، مشهداً لجارتين، إحداهما مسيحية والأخرى مسلمة كما أخبرني مرافقي، وكما هو واضح في لباسيهما، تجلسان معاً أمام منزل إحداهما وتتناقشان في الطبق الذي ستعدّانه على الغداء، وغير بعيد عنهما يلعب أطفالهما معاً، ولا بد أنهم يرتادون المدرسة نفسها أيضاً، ويتعلمون العلوم ذاتها، فحزنت لما تذكرت أنه حتى وقت قريب كان لليهود وجود قوي في دمشق وحلب وعدد من المدن العربية الأخرى، وكانوا يمثلون الجار الطيب الثالث لهاتين الجارتين الطيبتين، قبل أن تأتي السياسة بالحرب وتُحدث شرخاً جعل أتباع الدين اليهودي مقصيين عن بيئاتهم، وحولّ شعوب المنطقة العربية إلى أعداء على أساس ديني في المقام الأول. وما أريد قوله هنا: أن الأصل هو التعايش السلمي بين أتباع الديانات الثلاث، من دون أي إلغاء لخصوصية أحد منهم، ليضمن الجميع حياة أفضل ومستقبلاً أكثر أمناً.
أخيراً.. دعاني الى الطعام في منزله ذات مرة صديق أميركي يهودي من أصول إيرانية، كان قد هرب مع أهله من بطش ثورة الخميني واستقروا في أميركا ليدرس فيها ويصبح من أمهر أطبائها، كانت طاولة العشاء متنوعة، لكنها أقل من تنوع الجالسين إليها، إذ ضمّت، بالإضافة الي أنا المسلم والى مضيفنا اليهودي، طبيباً يهودياً آخر ذا أصول مغربية يعيش في القدس ويتردد إلى أميركا لعلاج مرضاه المتحدرين من كل الأديان من دون تمييز، بخاصة أنه استشاري دولي كبير في الأمراض السرطانية، وكان يجلس معنا مستثمر لبناني مسيحي يعمل في القطاع الصحي، ومسلم عراقي لم أعرف إن كان سنياً أم شيعياً، لكني عرفت أنه هجر جحيم الحرب في وطنه ليستقر في أميركا، سألته: ألا تخشى من الجلوس مع يهودي أميركي وآخر إسرائيلي؟ فأجابني: بلى لو أنني ما زلت في العراق، أما هنا فأستطيع فعل كل ما أراه صحيحاً، ولا أجد حرجاً أن يكونا من أعز أصدقائي. فالتفت الى الضيف اللبناني وسألته السؤال ذاته، بخاصة أنه يتردد على لبنان كثيراً، فقال ضاحكاً: كان بعض أصدقاء طفولتي من اليهود اللبنانيين، عشت وكبرت معهم، لكنهم تركوني وهجروا وطنهم الأصلي بلا عودة، لذلك أنا أيضاً لا أجد حرجاً في ودّهم ما دمت قد نشأت منذ صغري على هذا الود. كان سؤالي الأخير للطبيب الإسرائيلي: ألا تفرض السلطات لديكم أي قيود على اجتماعكم بأشخاص عرب أو مسلمين، وتعتبر ذلك تهديداً لأمنها القومي، تحديداً إذا كانوا من مواطني الدول التي تجاهر بعدائها لكم، كالجزائريين مثلاً أو اللبنانيين أو العراقيين أو السوريين أو اليمنيين أو الأيرانيين، بخاصة أن حكوماتهم تعاقب كل من يتواصل مع الإسرائيليين وتعتبر ذلك خيانة أو تجسساً؟ فاستغرب كيف يمكن أن يكون هذا النوع من التواصل تهديداً للأمن القومي، وقال: بل على العكس، حكومتنا تشجع على ذلك، ولا تمنع أي أمر يمكن أن يساهم في الانفتاح على جيراننا، لأننا نتطلع لبناء علاقات جيدة وطبيعية مع كل الشعوب المحيطة بنا. فقلت: لكنكم ترفضون مساعدة الفلسطينيين في بناء دولتهم ووقف الظلم الذي يصيبهم من جميع الاتجاهات؟ فقال مازحاً: أنا لا أرفض المساعدة في ذلك، رؤساء الحكومات هم الذين يرفضونها، ثم أضاف: لأنهم يشترطون أولاً أن يعترف العرب والمسلمون بأننا جزء من هذه الأرض، وأن أسلافنا عاشوا فيها، ولنا فيها مقدساتنا ومعابدنا التي نعبد فيها الإله نفسه الذي تعبدونه، فهل قومك مستعدون لهذا الاعتراف؟ فأجبته: ما كنت أحب أن ترد عليّ السؤال بسؤال، وأنا بكل الأحوال مؤمن بأن الإنسان، أياً يكن، أهم من أي أرض، ولكن للحديث بقية أخرى”.
أدركت بعد هذا اللقاء كم نحن نحتاج السلام، ونحتاج كل خطوة تدعم حصولنا عليه في بلادنا العربية، حتى نتمكن من المشاركة في إرسائه عالمياً، وإلا فإن فاقد الشيء محال أن يعطيه. وبعد فترة من هذه الحادثة أسست مركزاً بحثياً في أبو ظبي والأردن اخترت له اسم “معهد السلام للدراسات والبحوث الاستراتيجية”، ليركز اهتمامه على كل ما يقوي علاقة الإنسان بالآخر، وعلى دعم كل ما يعلي مبادئ الحوار والمساواة والحب بين الجميع، وإني مؤمن بأن قيام حوار فعال بين أدياننا التي شكلت وجه المنطقة ومنحتها ميزتها الحضارية والثقافية، كفيل بالحدّ من الصراعات والحروب التي شرّدت الملايين من أبناء جلدتنا وعقائدنا. والأهم أنه سيكفل أيضاً إقصاء الصراعات السياسية عن التحكم بمصيرنا وشكل حياتنا، ويمهّد طريق الانتقال إلى بناء الإنسان وتشكيل ثقافته على أساس احترام الآخر المختلف الذي تجمعنا به أرض واحدة ومستقبل واحد وإله واحد، فإما نصنع جنتنا معاً أو نسير إلى الهلاك معاً.