بقلم: أ. د. بسام أبو عبدالله – الوطن السورية
الشرق اليوم- قد يبدو هذا العنوان جدلياً بالنسبة للكثيرين، وغير مقبول ومبالغاً به بالنسبة لآخرين، ولكنني أحاول هنا أن أناقش ما يتم طرحه داخل الولايات المتحدة نفسها من قبل أهم النُخب الأميركية، لنفهم أكثر ماذا تعني «نهاية الحقبة الأميركية»، والقضية هنا ليست عاطفية على عادتنا نحن الشرقيين، نحب ونكره، ولكنها قضية علمية موضوعية، تُطرح على الملأ من قبل النُخب الأميركية المهمة.
في عام 1989 ومع سقوط جدار برلين كتب يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما مقالاً في مجلة «ناشيونال انترست» قال فيه: «إن ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو، هذه نقطة النهاية للتطور الإيديولوجي للبشرية، وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكومة الإنسانية»، ثم عاد فوكوياما ليتوسع في هذه الفكرة، وينشر كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» عام 1992، أي بعد عام من انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الاشتراكي.
ربط فوكوياما اسمه بالمحافظين الجدد، وبمن كان يرى أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أميركياً بامتياز، ومن سيرته الذاتية يتبين لنا أنه عمل في أهم الجامعات الأميركية منها ستانفورد التي يعمل بها منذ عام 2010 وجونز هوبكنز، إضافة لكونه عضواً في الصندوق الأميركي للديمقراطية، ومؤسسة أميركا الجديدة، والأهم مجلس العلاقات الخارجية أي حكومة الظل في العالم.
هذه الخلفية الذاتية لفوكوياما ضرورية لما سأتحدث عنه لاحقاً لأن رأيه اللاحق مهم باعتباره ابناً لأهم مؤسسات التفكير الأميركية، وبالتالي فإن تقييمه ليس عابراً أو عاطفياً بل هو نابع عن معرفة وتحليل من الداخل الأميركي، والقضية ليست لدى فوكوياما فقط بل نشرت مئات الدراسات التي تتحدث عن الفكرة نفسها.
في 18 آب الجاري، نشر فوكوياما مقالاً في «الإيكونوميست» البريطانية تحت عنوان «نهاية الحقبة الأميركية»، وبالرغم من أنه ابتعد لاحقاً عن المحافظين الجدد، وأدان غزوهم للعراق، لكنه هنا في هذا المقال يرى أن نهاية عصر الولايات المتحدة جاء مبكراً، لأن الهيمنة الأميركية استمرت لأقل من عشرين عاماً، أي منذ سقوط جدار برلين 1989 وحتى الأزمة المالية العالمية 2007-2009.
ويحلل فوكوياما في أسباب هذا الانحدار الأميركي، ويرى أن الغطرسة الأميركية وصلت لذروتها عندما احتلت العراق، وهؤلاء لا يستخدمون كلمة احتلال بل اجتياح، وكأن الاجتياح ليس احتلالاً! على أمل أن تغير ليس فقط العراق وأفغانستان بل الشرق الأوسط بأكمله.
وبرأي فوكوياما فإن أميركا بالغت في تقدير كفاءة قوتها العسكرية من أجل إحداث تغيرات سياسية جوهرية، فانتهى العقد بتورط القوات الأميركية في حربين، إضافة للأزمة الاقتصادية العالمية مما أدى إلى زيادة حدة عدم المساواة، وتراجع الأحادية القطبية، وظهور أقطاب جدد مثل الصين وروسيا والهند وأوروبا ومراكز أخرى.
يعزو فوكوياما أسباب التراجع الأميركي إلى عوامل داخلية وليست خارجية، ويحصرها فيما يلي:
- الاستقطاب الشديد في المجتمع الأميركي عميق جداً ولا مجال للوصول لإجماع في أي شيء.
- الاستقطاب يشمل كل شيء: الضرائب، الإجهاض، الهوية الثقافية، المهمشين… الخ.
- «كوفيد 19» زاد الانقسام في المجتمع عبر التباعد وارتداء الأقنعة، وتسييس اللقاحات لخدمة أجندات سياسية بدلاً من الصحة العامة.
- انتشار الصراعات في جميع مناحي الحياة مثل الرياضة، وأنواع السلع الاستهلاكية التي يشتريها أصحاب اللون الأحمر هو رمز الحزب الجمهوري، وأصحاب اللون الأزرق هو الحزب الديمقراطي.
- الجدل حول مسألة الهوية إذ إن النقاش انتشر داخل أميركا بشأن جذور نشأتها وهل تم على أساس العبودية، أم على الكفاح من أجل الحرية، وهو نقاش حل محل الهوية المدنية التي افتخرت بها أميركا تاريخياً باعتبارها ديمقراطية متعددة الأعراق، ويشير إلى أن هذا الجدل ظهر بوضوح في انتخابات عام 2020، بين دونالد ترامب وجو بايدن، إذ لأول مرة يظهر هذا الانقسام، إضافة للفشل في انتقال السلطة.
يقر فوكوياما أن الجمهوريين بغالبيتهم يرون أن الديمقراطيين هم أكثر خطراً من روسيا على أسلوب الحياة الأميركية، وأن الإجماع بين النخب حول الموقع القيادي لأميركا في السياسة العالمية لم يهتز طوال القرن العشرين، ولكنه الآن بعد حروب العراق وأفغانستان تزعزع بشكل كبير، ويشهد انقساماً واضحاً.
وحسب فوكوياما فإن إخفاق بايدن في منع سقوط نظام كابل، والانسحاب الفوضوي من أفغانستان يشكل هزيمة له في أول سبعة شهور من عهده، على الرغم من تشكيك العديد من المراقبين بهذه الخلاصة، وبأن أميركا تعيد التموضع، وما جرى اتفاق أميركي طالباني ضد دول جوار أفغانستان، تم منذ عهد ترامب، لكن لفوكوياما رأياً آخر في هذه المسألة الجدلية.
الإجماع الوحيد بين الجمهوريين والديمقراطيين هو خطورة صعود الصين التاريخي، وعودة دور روسيا، ولكن الاختبار الحقيقي سيكون في تايوان، وأوكرانيا، وهل ستعود أميركا لعادتها القديمة في الحروب؟ هذا سؤال مفتوح للمستقبل!
مقال فوكوياما المهم، يخلص إلى أن سمعة أميركا وجاذبية مؤسساتها تراجعت كثيراً، ومن الصعب دعوة أي دولة في العالم لتقليد النظام القبلي الأميركي المختل، وأن أميركا لن تسترجع هيمنتها ولا ينبغي لها أن تطمح لذلك، وما يمكن أن تطمح إليه هو الحفاظ على نظام عالمي يحترم القيم الديمقراطية واستعادة شعورها بالهوية الوطنية.
إن استعراضي التفصيلي لمقال فوكوياما الطازج في «الايكونوميست» جاء للتأكيد على مجموعة نقاط:
- العالم تغير ونحن أمام تحول تاريخي في العلاقات الدولية.
- ما لم يعترف به فوكوياما أن هزيمة المشاريع الأميركية سواء بالاحتلال المباشر لأفغانستان والعراق، أو بحروب الوكالة، عبر استخدام المرتزقة والقاعدة وداعش، كلفت شعوب المنطقة ثمناً باهظاً، وآلاف الشهداء والجرحى، وتراجع الدور الأميركي ليس منة من أميركا، إنما نتيجة كفاح شعوب المنطقة، ومنها الشعب السوري.
- إن أولئك المراهنين على القوى الخارجية يجب أن يقرؤوا الدروس الأخيرة، سواء في كابل، أو درعا، أو إدلب لاحقاً، فالإمبراطورية تعاني مشاكل داخلية عميقة، والاعتماد والاستقواء بها كمن يستقوي بالسراب، فهي ترمي عملاءها خلفها وتسير، لأنهم أصغر من أن تهتم بهم، حتى لو كانوا مترجمين، وهو مصطلح مضلل استخدمه الأميركيون بديلاً من كلمة «عملاء».
إن استمرار أميركا في التأثير مرهون بقدرتها على النجاح في إصلاح مشاكلها الداخلية، وليس في المزيد من الاحتلال والهيمنة، وفق فوكوياما، وحسبما نراه من تحولات، وخلاصات فإن مشروعها في الهيمنة وصل إلى مرحلة التراجع الواضحة، وما على الجميع سوى أخذ الدروس والخلاصات.
قبل فترة قال وزير الخارجية الصيني: إن على الولايات المتحدة أن تتوقف عن التعامل مع دول العالم بتعال وغطرسة، وإذا لم تفهم أميركا على دول العالم أن تعلّمها ذلك، وأعتقد أن الولايات المتحدة يفترض أنها أخذت الدروس والعبر وعليها الاهتمام ببيتها الداخلي قبل أن تهتم بهندسة مجتمعات الآخرين ونظمهم السياسية، هكذا نفهم من فوكوياما في الخلاصة.