الشرق اليوم- كانت أنقرة على الأرجح من أكثر الجهات التي فوجئت باستيلاء حركة «طالبان» على كابول والانسحاب الأميركي المبكر من أفغانستان، فحتى الأسبوع الأخير، انشغلت أنقرة بمحاولة تأدية دور الوساطة بين «طالبان» والغرب وتسلم إدارة مطار كابول الدولي بعدما تنهي قوات حلف الناتو انسحابها، لكن بعد التطورات المفاجئة الأخيرة، بدأت تركيا تتخبط للتكيف مع الوقائع الميدانية الجديدة.
تطغى في أنقرة فكرة أن التفاوض مع واشنطن لم يعد مجدياً الآن، ولهذ تتجه للتواصل مع «طالبان» مباشرةً، وتظن أن «طالبان» باتت تهتم بالشرعية الدولية وستعطي أهمية خاصة لعلاقاتها مع تركيا، الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في حلف الناتو.
قد يتساءل البعض: كيف أصبحت أفغانستان فجأةً موضوعاً مهماً لتركيا؟ ولماذا تتوق أنقرة لأداء دور كبير في أفغانستان رغم المخاطر الواضحة؟
لا يمكن إجابة هذا السؤال بناءً على توجهات السياسة الخارجية التركية ومصالح تركيا الدبلوماسية في أفغانستان فحسب، ولا يمكن تفسيرها انطلاقاً من الواقعية السياسية وحده. لقد أصبحت علاقات تركيا الخارجية أداة لضمان صمود إردوغان سياسياً وتقوية مكانته الدولية، فقد أدت سياساته لتضرر علاقات تركيا مع أميركا وأوروبا بالسنوات الأخيرة، ويبدو أن حكومته تتوق لاستغلال ملف أفغانستان ولعب الوساطة بين القوى العالمية و»طالبان» لإثبات أهميتها أمام الغرب، والأهم من ذلك أن الورقة الأفغانية ستقوي موقفها خلال المفاوضات حول مسائل أخرى مع واشنطن وأوروبا.
على صعيد آخر، تتعلق مقاربة أنقرة بالمساعي الجيوسياسية لتعزيز نفوذ تركيا في آسيا الوسطى عن طريق أفغانستان، وتتماشى هذه الفكرة مع الخطاب السياسي القومي الذي يتبناه «حزب العدالة والتنمية» برئاسة إردوغان و «حزب الحركة القومية»، شريكه في الائتلاف، وتبدو هذه الفكرة محورية لإقناع الأوساط البيروقراطية القلقة من التداعيات الأيديولوجية الناجمة عن التواصل التركي مع «طالبان».
تفسّر العوامل الاقتصادية أيضاً مساعي أنقرة لتعزيز دورها في أفغانستان، فهي تتطلع إلى إطلاق مشاريع بناء وبنى تحتية ضخمة في ذلك البلد الغارق في الحرب، لكن هذه الحسابات تشمل مخاطر كبرى.
في المقام الأول، قد يوقظ انتصار «طالبان» العسكري والسياسي في أفغانستان الشبكات السلفية والجهادية المتطرفة في شمال سورية، حيث لا تزال مساحات كبيرة من الأراضي تحت السيطرة التركية.
كذلك، يشمل المتطرفون الذين أطلقت «طالبان» سراحهم من السجون الأفغانية حين استولت على البلد عدداً كبيراً من الأتراك وحاملي جنسيات أخرى على صلة بتركيا. كم واحدا منهم سيحاول العودة إلى تركيا أو التوجه نحو شمال سورية عبر تركيا؟ ورغم الشرخ الأيديولوجي والعرقي بين «طالبان» والجهاديين السلفيين المتطرفين في شمال سورية، ينذر استرجاع «طالبان» للسلطة بنشوء ممر جهادي بين أفغانستان وسورية والعراق عن طريق تركيا.
يتعلق مصدر خطر آخر للتدخل التركي في أفغانستان بزيادة أعداد الأفغان الهاربين من «طالبان»، فوفق الأرقام الرسمية، تشمل تركيا في الوقت الراهن نحو 116 ألف مهاجر أفغاني غير شرعي، لكن يفوق العدد الحقيقي عتبة 500 ألف. تزعم وسائل الإعلام التركية والسياسيون المعارضون أن عدد الأفغان الذين وصلوا إلى تركيا من إيران بطريقة غير شرعية بلغ 1500 شخص يومياً خلال الأسابيع القليلة الماضية، لكن بسبب تشديد التدابير الأمنية، يقال إن الأرقام اليومية تراجعت في الفترة الأخيرة، ومع ذلك، لا يعود الأفغان الذين يفشلون في قطع الحدود إلى ديارهم بل يبقون في إيران وينتظرون اللحظة المناسبة للتسلل، مما يعني أن أعداد الأفغان المتأهبين على الجانب الإيراني تزداد مع مرور كل يوم.
باختصار، يجب أن تفكر أنقرة بمجموعة كبيرة من الإيجابيات والسلبيات قبل أن تنفذ خطتها الطموحة بالتواصل مع «طالبان»، إذ تأمل الحكومة استغلال الأزمة لتحسين مكانتها الخارجية وإثبات براعتها محلياً حيث تصاعدت الاضطرابات أخيراً بسبب طريقة تعاملها مع حرائق الغابات المدمّرة والفيضانات التي تتزامن مع مشاكل اقتصادية متفاقمة نتيجة وباء كورونا، فتواجه تركيا مهمة شاقة إذاً لأنها مضطرة لإدارة مخاطر هذا التواصل الذي قد يسبب لها في نهاية المطاف مشاكل إضافية محلياً وخارجياً.