بقلم: سالم الكتبي – جريدة إيلاف
الشرق اليوم- بعد أن كان السؤال الذي يتردد منذ فترة يتمحور حول احتمالات نجاح مفاوضات فيينا في التوصل إلى اختراق يضمن إحياء الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة “5+1” عام 2015، بات السؤال الآن، وتحديداً منذ تولي ابراهيم رئيسي منصبه خلفاً لحسن روحاني، هو هل تُستأنف المفاوضات من الأساس أم يكتفي الملالي بما عُقد من جولات ست سابقة لم يتم التوصل خلالها إلى نتائج نهائية؟
الشواهد تقول أن الشكوك التي كانت تحاصر جولات فيينا السابقة بشأن امكانية التوصل إلى سيناريو يرضي الأطراف جميعها، تحولت إلى شكوك حول امكانية مواصلة التفاوض، حيث نقلت مجلة “بوليتيكو” عن المبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي تشكيكه في عودة إيران إلى محادثات فيينا، والواضح أن نظام الملالي لم يقدم حتى الآن أي مقترحات بشأن موعد استئناف جولات التفاوض، ولا تلوح في الأفق أي بادرة على محاولات تواصل ايجابية بين حكومة ابراهيم رئيسي والعواصم الغربية.
بالطبع هناك تفسيرات عدة للجمود التفاوضي الراهن حيث يصعب القفز إلى استنتاجات قاطعة بشأن موت سريري أو اكلينكي لمفاوضات فيينا، وفي مقدمة هذه الاستنتاجات رحيل الفريق التفاوضي الذي كان يقود مفاوضات فيينا، وفي مقدمتهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي كان يعد المحرك الرئيسي للعلاقات مع القوى الكبرى، حيث شغل منصبه لمدة ثماني سنوات، بينما يحتاج من يحله محله إلى بعض الوقت لدراسة الموقف التفاوضي وعرض تصوراته بشأن ماهو قادم، وهنا تجب الاشارة إلى أن ظريف كان يلعب دوراً بارزاً في التواصل مع الغرب تحديداً، وقد ترك فراغاً يصعب على من سيأتي بعده شغله بسهولة، بالنظر إلى قدرات ظريف وخبراته الشخصية الكبيرة، فضلاَ عن علاقاته الواسعة مع السياسيين في العالم. وفي ضوء ماسبق يبدو أن “تشاؤم” المبعوث الأمريكي بشأن مصير المفاوضات النووية لم يأت من فراغ وليس ناتجاً عن تأخير نظام الملالي في تحديد موعد الجولة التفاوضية السابعة فقط، بل يرتبط بالأساس بتوجهات ابراهيم رئيسي الذي اختار حسن أمير عبد اللهيان وزيراً للخارجية خلفاً لظريف، ضمن تشكيل حكومي يطغي عليه التشدد والتطرف، وهنا تكفي الاشارة إلى أن الحكومة الايرانية الجديدة تضم عدد من الوزراء ينتمون إلى الحرس الثوري ومدرجون على لائحة العقوبات الأمريكية شأنهم في ذلك شأن رئيسي ذاته!.
التلفزيون الايراني وصف عبد اللهيان بأنه “دبلوماسي مرموق لمحور المقاومة”، وهو بالفعل كذلك فالرجل لم يعرف عنه سوى علاقاته الوثيقة مع أذرع إيران ووكلائها المسلحين من ميلشيات وتنظيمات متطرفة في سوريا والعراق ولبنان، بينما دار أول حديث لعبد اللهيان مع نواب في مجلس الشورى الايراني حول ايمانه بأسلوب الجنرال قاسم سليماني في مجال السياسة الخارجية وأنه سيمضي على هذا النهج، أي أنه جاء على عكس اتجاه سلفه ظريف الذي انتقد علناً تدخلات سليماني في السياسة الخارجية رغم جهله بأصولها وقواعدها! بما يعني أن نظام الملالي بات متسقاً مع ذاته، ولم يعد هناك مجال للحديث عن اصلاحي ومحافظ، فالمشهد السياسي بات متشحاً بلون الحرس الثوري، ولا ينتظر من وزير خارجية ظل يُعرف بأنه رجل الحرس في وزارة الخارجية الايرانية، أن يبدي أي نوع من المرونة في حال جلس على مائدة تفاوض مع الغرب.
عموماً لا يتوقع انعقاد جولة تفاوض جديدة قريباً لأن عبد اللهيان يقول أنه “يحاول تطوير نموذج وآلية جديدة للتشاور مع الخبراء في تحديد كيفية التعامل مع ملف الاتفاق النووي” مايعني أنه حتى لو حدد ميعاد للجولة السابعة فستكون جولة استكشافية بانتظار الآلية الجديدة التي يحاول عبد اللهيان التوصل إليها، وهي غالبا ستكون آلية نابعة من فكر صدامي متشدد، فرغم خبرات الوزير الجديد نسبياً في المجال الدبلوماسي لكنه يبقى صاحب علاقات محدودة للغاية مع الأوساط الغربية، فضلاً عن كونه يميل دائماً لتنفيذ توجيهات المرشد الأعلى علي خامنئي بشكل دقيق من دون أن محاولة من جانبه للتفكير خارج الصندوق، وربما كانت هذه أحد أهم السمات الشخصية التي رجحت كفته على المرشحين الآخرين للمنصب
والواضح من تحليل رسائل الملالي في الشأن النووي أن رئيسي يريد مواصلة التفاوض ولكنه يريد تغيير استراتيجية الملالي وإظهار نهج جديد، ولكن من الوارد أن يكون أحد أسباب المماطلة في إعلان موقف محدد إزاء مصير الجولة التفاوضية المقبلة هو الضغط على أعصاب المسؤولين الأمريكيين الذي لا يريدون بالتأكيد المزيد من الاخفاقات لاسيما في ظل الانتقادات المتلاحقة التي تطال البيت الأبيض بسبب مشهد الانسحاب من أفغانستان، لذا قد يعتقد الملالي أن التريث في هذا التوقيت ربما يدفع واشنطن لتقديم المزيد من التنازلات لتحقيق إنجاز سياسي يحتاجه الرئيس بايدن بشدة، ويحتاجه كذلك ابراهيم رئيسي في مستهل ولايته الأولى.
المعضلة، برأيي، أن الولايات المتحدة لا تمتلك أي بدائل استراتيجية فاعلة في الرد على التصعيد الايراني في ملفات عدة، وأبرزها مواصلة انتهاك البنود الواردة في الاتفاق بشأن معدلات تخصيب اليورانيوم، بل على العكس تماماً فإن الرسائل القادمة من واشنطن لا تحمل أي جديد يردع الملالي عن مواصلة التحدي، فالمبعوث الأمريكي روبرت مالي الذي كلفه بايدن بإعادة التزام الولايات المتحدة في الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، يقول أن بلاده تمتلك خيارات بديلة في حال عدم إعادة إحياء اتفاق عام 2015 ، ومنها توقيع اتفاق جديد منفصل تماماً عن ذلك الاتفاق الذي ينتهي مفعوله بحلول العام 2030، أما الخيار الآخر فهو فرض عقوبات ضد طهران تأتي بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، ولم يوضح روبرت مالي ماهية تلك العقوبات ولا كيف يمكن توقيع اتفاق جديد رغم الفشل في ترميم الاتفاق القديم ورغم رفض الملالي طرح موضوعات خارج الاتفاق النووي الحالي؟!
الخلاصة أنه من الصعب القطع بامكانية عودة الملالي إلى فيينا من عدمه وتوقيت هذه العودة ـ إن حدثت ـ ولكن المؤكد أنهم يخططون لبلورة رؤية مختلفة عما سبق، لذا فإن الاكتفاء بالتلويح بعقوبات جديدة لم يعد فعالاً في ترويض نظام الملالي، وهناك حاجة أمريكية ملّحة لصياغة رؤية استراتيجية جديدة للتعامل مع التهديد الايراني بشكل يتماشى مع توجهات الحكومة الجديدة في طهران.