بقلم- حسن منيمنة – الحرة
الشرق اليوم- التقاذف متواصل بين الاحتفاليين والاعتذاريين. ثمة رغبة لدى أولئك بإلصاق نعت الهزيمة النكراء بما جرى للولايات المتحدة في أفغانستان، في مقابل مسعى في أوساط هؤلاء لإدراجه في إطار التحول الرائق والمتوقع بإجماله، وإن لم يكن بتفصيله.
واقع الحال، لا جيوش طالبان تجول بالبيارق المرفوعة في جادات العاصمة واشنطن للحديث عن الفتح المبين، ولا الآلة الحربية الأميركية تعيد توزيع عديدها وعتادها بالدقة المتعمدة والتأني الرقيق، بما يسند مقولة الانتقال السلس.
الولايات المتحدة قد هزمت بالفعل في أفغانستان، فيما يتعدى صورة الفوضى في مطار كابل، والتنسيق الاضطراري مع عدو الأمس. غير أنها هزيمة بمقاييسها الذاتية، وليست هزيمة إزاء أحد.
أصول الهزيمة تعود إلى قرار الهجوم على أفغانستان نفسه، في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001.
ما كانت الولايات المتحدة تفتقده في أعقاب هذا الاعتداء هو نظرية علاقات دولية متماسكة. في المرحلة السابقة، أي الحرب الباردة، كانت قراءة الولايات المتحدة للأحوال الدولية موحّدة في تقييمها للتحديات والمصالح، وإن اختلفت، بين التيارات الفكرية والتوجهات الحزبية، في تصورّها للسياسات التي تقتضيها. كانت ثمة منظومة اشتراكية شمولية تسعى إلى التمدد بما يهدد مصالح الولايات المتحدة والبنى الدولية التي أنشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فسواء كان الرد تشديد المواجهة لغرض الإنهاك، أو التواصل الذي من شأنه تفكيك جهود الخصوم، فإن خطوط التماس بين العدو والصديق كانت واضحة، ودور الولايات المتحدة في قيادة العالم الرأسمالي الحر كان جلياً.
مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، أصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة، وانحصرت مسؤولية ضمان الاستقرار العالمي بها، ما أسس لتنازع فكري داخلها، بين من يدعو إلى الانطواء، طالما أن الأخطار قد انحسرت، ومن يرى وجوب المحافظة على النظام الدولي القائم وتعزيز دعائمه من خلال المؤسسات الدولية، ومن يرى في الأمر فرصة لإعادة صياغة العالم بما يتوافق مع المصالح والقيم الأميركية، باعتبارها الأنسب عالمياً وإن جهل الآخرون الأمر، وهي الرؤية المحافظة الجديدة.
“غزوات” الحادي عشر من أيلول خلطت الأوراق، وهزّت شعور النصر المفصلي والأمان التاريخي واللذين كانا سائدين في الولايات المتحدة. الحاجة إلى فعل حاسم كانت ماسة. السؤال كان وحسب حول طبيعة الخطوة العتيدة، أي الحرب على أفغانستان. اقتصاصية؟ ربما. حرب عادلة”؟ هكذا ارتآها العديد من التقدميين.
على أن تأطير الهجوم على أفغانستان تمّ في نهاية الأمر عبر تلاقي ثلاث قراءات. إحداها، قراءة “المصلحة الوطنية” كانت القائلة إن المطلوب هو فعل عقاب وردع، أي الدخول إلى أفغانستان، تدمير القاعدة المستوطنة فيها، تأنيب حكامها من طالبان بكل القسوة، وترك الأمر للأسرة الدولية لمعالجة التبعات.
القراءة الثانية، تستدعي المبادئ والقيم، وترى في التجاوز الصادر من أفغانستان نتيجة مباشرة لإهمال من واشنطن لمن عبأتهم واستفادت منهم لاستنزاف الاتحاد السوفييتي، أي المجاهدين ومن جاء بعدهم من طالبان. فلضمان استقرار أفغانستان وجوارها والعالم، كان لا بد بالتالي من استبدال النظام الإسلامي القائم بآخر متوافق مع المنظومة الدولية، بفعل أميركي ومساهمة عالمية.
أما القراءة الثالثة فهي التي رأت في الفوضى في أفغانستان وفي استفحال الحركة الجهادية فرصة لتجاوز الفعل التصحيحي باتجاه الإقدام على تأسيس واقع جديد، الشرق الأوسط الكبير، المتوافق في قيمه وبناه ونظمه مع الرؤية المحافظة الجديدة.
المشترك بين القراءات الثلاث هو العزم على القضاء على القاعدة والاقتصاص من طالبان. ورغم أن هذا الهدف الأولي قد تأخر، فإنه كان بالإمكان زعم تحقيقه في وقت لاحق، ولا سيما مع مقتل أسامة بن لادن وتشتيت القاعدة، رغم أن ثمن هذا التشتيت، وسوء متابعته، كان ظهور ما هو أسوأ من القاعدة.
التلاقي المرحلي بين القراءات الثلاث انتهى بعد أعوام قليلة من سقوط كابل والشروع الفاشل بمساعي تنفيذ الأهداف التالية على تضاربها، بل أن هذه الأهداف قد فقدت الزخم، في أفغانستان كما في العراق وسائر العالم، وأمسى لسان حال واشنطن السعي للتخلي عن دور شرطي العالم.
ولكن المشاريع المستهلِكة للأموال العامة لا تزول من تلقاء نفسها، بل لها في بناها من المستفيدين الموضعيين ما يضمن استمرارها. لا حاجة هنا لاستدعاء نفوذ فائق لشركات الانتاج الحربية لتفسير هذا الاستمرار، دون تبرئتها، ذلك أن أعداد المستفيدين، في الولايات المتحدة نفسها وأفغانستان وسائر العالم كانت واسعة إلى حد تعزيز الزخم للاستمرار، ما لم يأتِ قرار ترشيد المصلحة الوطنية من السلطة السياسية في واشنطن.
هذا في حين أن ضياع الخطاب الواضح حول جدوى الحرب الطويلة في أفغانستان وانحسار الخطر الجهادي الإرهابي، أو انتقاله إلى خارج أفغانستان، ضاعف التململ في أوساط المجتمع من حرب يبدو أن نتائجها هو وحسب أعداد من القتلى والمعوقين من الجنود الأمريكيين.
أي أنه كان بوسع الرئاسات الأمريكية المتعاقبة، بناءً على الرغبة بالتخلي عن دور شرطي العالم، وتجاوباً مع الإرادة الشعبية بإنهاء حرب غير مفهومة، أن تقدم على خطوة وضع حد للمواجهة قبل عقد من الزمن أو أكثر. عرضياً، رغم أن الأمر خارج الاهتمام أو الوعي بالنسبة للغالبية في الولايات المتحدة، ونظراً إلى النتيجة التي تحققت اليوم، كان من شأن ذلك أن ينجي مئات الألوف من أهالي أفغانستان من الموت والألم، وينقد بلادهم من مضاعفة الدمار.
هل كانت الرئاسات المتعاقبة في واشنطن خلال هذه المرحلة الحرجة على مستوى المسؤولية؟ الحكم للتاريخ طبعاً، ولكن الاستعراض الأولي لأداء الرؤساء لا يفيد الطمأنينة. باراك أوباما قرّر بما يشبه الاعتباطية أن الحرب في العراق هي الاختيارية وفي أفغانستان هي الاضطرارية، ثم عاد ومنع عن قواته المسلحة ما يمكنهم من الانتصار بحربه الاضطرارية. كان جلياً بالنسبة لطالبان، منذ أن تولّى أوباما الرئاسة أن المسألة هي قضية وقت وحسب قبل الانسحاب الأميركي. لا رغبة بالمزيد من الضخ والالتزام، والأهم لا رؤية حول طبيعة الانتصار وكيفيته.
ثم جاء دونالد ترامب، مستعيناً بفكرة الانسحاب وجداوها انتخابياً، وسعى مهرولاً لتحقيق الانسحاب في عهده، دون اعتبار للعواقب، ولا سيما في تضييع الضئيل الذي كان قد تحقّق بنيوياً، فسعى إلى توقيع اتفاق مع أعداء الأمس، بل كاد أن يستقبل وفد طالبان في واشنطن في الذكرى السنوية لاعتداءات الحادي عشر من أيلول. وترك الرئاسة والتواجد الأمريكي في أفغانستان في حال افتقاد للخطط الميدانية، بالإضافة إلى غياب الرؤية التأطيرية.
ثم كان دور جو بايدن، والذي عاش ارتباك أوباما يوم كان نائباً له، وعلى ما يبدو شاء أن يستفيد من تسرّع ترامب، لإيلاء الشأن الداخلي كل اهتمامه، فجاءت خطواته من طينة سلفيه، محدودة الرؤية وقاصرة الأداء.
ليس في الأمر تنقيص من صمود طالبان ومقاومتها للقوات الأجنبية، دون أن يصل هذا التقدير إلى حد الارتقاء بها إلى وصف يشبه الحركة الوطنية. هذا التنظيم لم يتردد لتحقيق أغراضه باستباحة دماء الأبرياء. ورغم العقيدة القتالية “الحضارية” للقوات الأمريكية والحليفة، فإن أداء هؤلاء بحق الأفغان ليس مشرّفاً بدوره.
غير أن من هزم الولايات المتحدة في أفغانستان هي الولايات المتحدة نفسها، ساعة تشتّتت الرؤية التي زجّت بها في هذه البلاد البعيدة، وساعة عجز رؤساؤها المتعاقبين عن اتخاذ القرارات الواضحة الحازمة.
ما جرى في أفغانستان يتطلب مراجعات ومساءلات سوف تجري حكماً، وسوف ينتج عنها مطالبات بنهج جديد وسياسات مختلفة تحيط منطق التدخلات الخارجية بفائق الحذر. ولا شك أن خيبات الأمل واسعة ومتشعبة في الولايات المتحدة والصف الغربي، كما في أفغانستان نفسها وفي سائر العالم، الذي اعتبر واهماً أن الانخراط الدولي الطويل الأمد في أفغانستان من شأنه أن يستنهض هذه البلاد المنكوبة.
المسألة ليست في عدم توفر الإمكانيات. للولايات المتحدة من القدرة البناءة ما كان من شأنه تشييد أفغانستان مرات عدة، ولها من القوة الضاربة ما كان كفيلاً بإبادة طالبان عن بكرة أبيها.
ولا المسألة في القناعات. بل المجتمع الأمريكي حاضر لأن يستجيب من حيث المبدأ ثم المصلحة لدعوة المساهمة في استنهاض الآخرين إذا كان التأطير واقعياً ومنطقياً. ربما أن الهزيمة الفعلية للولايات المتحدة، في أفغانستان كما في العراق، كانت أنها عجزت عن إنتاج القيادات الكفيلة بوضع إمكانياتها الفائقة في خدمة ما يتوافق مع مصالحها ومبادئها في آن.
قد يكون جو بايدن صائباً في تقييمه أنه لا سبيل لأن يكون الخروج من أفغانستان مختلفاً. إذ ليس في الأمس القريب رئيس كان بالإمكان أن ينتظر منه أداءً يحقق هذا التوافق.
عسى أن يكون في التقييم اللاحق لهذه التجربة المرّة إقراراً بالظلم الذي أصاب سكان أفغانستان. وأن يبنى على الأمر مقتضاه.