بقلم: محمود الورواري – صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم- سيطرة طالبان على كابل ومعها كامل أفغانستان تتخطى فكرة هزيمة أمريكا الدولة الأكبر والأقوى في العالم في بلد متناهي الصغر وغارق في الفشل، فالمعيار منقوص للمقارنة بين متحاربين، ورغم ذلك النتيجة واضحة وجلية؛ أكبر دولة في العالم انسحبت بعد عشرين عاماً من التجريب والاختبارات والفرص.
ما حدث ليلة دخول حركة طالبان إلى كابل هو إعلان نتيجة أطول اختبار، وأطول تجربة عملية لتجريب نموذج على أمم وشعوب لنكتشف في النهاية أن نموذج الديمقراطية الليبرالية الأمريكية هو نموذج فشل حين تم تجريبه على أرض الواقع.
نعود بالتجربة إلى بدايتها في نهاية ثمانينات القرن الماضي ومع سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وانتصار النموذج الأمريكي على النموذج السوفياتي، سقوط النموذج الاشتراكي أمام النموذج الديمقراطي الرأسمالي الأمريكي، خرج علينا فلاسفة أمريكا يبشرون العالم بأن التاريخ قد توقف أمام النموذج الأمريكي بل إنه نهاية الإنسان الأخير.
فظهر فرانسيس فوكوياما بكتابة “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، وصموئيل هانتنغنتون بكتابه “صراع الحضارات” وقبلهما كان أستاذهما ليو شتراوس الذي توفي عام 1973 مؤثراً في تكوين نظرياتهما.
كانت بداية التسعينات فترة الترويج للنموذج الأمريكي العولمي الذي يحكم العالم باعتباره النموذج الأصلح والأقدر على إحلال العدل ونشر الديمقرطية والحرية وهدم الديكتاتوريات سواء العسكرية منها أم الاستبدادية الأخرى.
عشرة أعوام منذ 1991 حتى 2001 كانت فترة تسويق نموذج الليبرالية الأمريكية، في المقابل خلق ذلك شحناً وضغينة لكثير من التنظيمات والتيارات المتشددة في العوالم المقصود تغييرها حسب العقيدة الأمريكية الجديدة، خصوصاً في الشرق الأوسط، فنمت تنظيمات متطرفة مثل “القاعدة” وغيرت أدبياتها في مقابل الشحن الآيديولوجي لنموذج المحافظين الجدد في أمريكا وتسويق نموذج الحرب الاستباقية التي تحدث عنها فلاسفتهم فوقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001.
انتقلت عقلية الحكم الأمريكي من الجانب النظري للنموذج الأمريكي إلى الجانب التطبيقي له عبر التغيير بالقوة، فتم احتلال أفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001 لتحقيق مجموعة أهداف؛ نظام طالبان الذي كان يحكم أفغانستان منذ 1996 ومحاربة وتفكيك والإنهاء على تنظيم “القاعدة”، وبناء دولة أفغانية على أساس النموذج الديمقراطي الأمريكي ونشر قيمه.
بعدها بعامين وفي مارس (آذار) 2003 أكمل المحافظون الجدد خطتهم وقاموا باحتلال العراق لتحقيق مجموعة من الأهداف؛ أولها إسقاط نظام صدام حسين الاستبدادي الديكتاتوري وبناء دولة عراقية قوية حسب معايير النموذج الديمقراطي الأمريكي التي كان فوكوياما وهانتنغنتون وفلاسفة المحافظين الجدد يملأون الدنيا بالحديث عنها.
وبعد عشرين عاماً من محاولة الاختبار العملي لنموذج القيم الأمريكية يتضح أننا أمام فشل متعدد الأطراف والقراءات، أوله فشل الفكرة والمعتقد، فالديمقراطية الليبرالية الأمريكية ليست الأصلح في هذه المنطقة من العالم ولا تختلف عن الآيديولوجيات التي سبقتها سواء كانت في النموذج الاشتراكي أو الماركسي أو حتى في نموذج الديمقراطية الغربية التي أشبعها الأمريكيون انتقاداً باعتبارها نموذجاً أوقع العالم في حربين عالميتين ولم يمنع تأسيس نماذج ديكتاتورية مثل هتلر وموسوليني.
نموذج الليبرالية الأمريكية الذي يقوم على التغيير بالقوة لا يمكن أن يكون ناجحاً، وإسقاط الديكتاتوريات المحلية لإحلال ديكتاتوريات محلها لا تفيد.
إن تغيير الأمم التي لم تندمج في تطبيق النموذج الأمريكي لا يمكن أن ينتج أمماً أخرى تكون على مقاس الديمقراطية الأمريكية وإنما سينتج أجيالاً محملة بالثأر.
بعد عشرين عاماً تبدو كما لو أن الهزيمة من نصيب أمريكا، وبعد عشرين عاماً ما زال العراق غارقاً في أزماته، ومع كل انسحاب للنموذج الأمريكي كان يقابله بزوغ لنموذج آخر. فمع انسحاب الأمريكيين من العراق في 2014 لم يترك الفراغ هكذا، لكن ملأه تنظيم “داعش” الإرهابي ونظام إيراني متطرف، ومع انسحاب الأمريكيين من أفغانستان ملأ الفراغ حركة طالبان.
النموذج الأمريكي أزمته أن فلاسفته الذين بشروا به ما زالوا أحياء وأعلنوا براءتهم منه بل فشله، ولنا في فرانسيس فوكوياما نموذج، إذ أصدر مجموعة مؤلفات كلها تؤكد تراجعه عن أفكاره السابقة.