بقلم: آدم نوسيتر
الشرق اليوم- كانت الساعة الثامنة صباحاً، وقد وقف الرقيب الأفغاني الناعس عند ما أسماه الخط الأمامي، قبل شهر من سقوط مدينة قندوز بيد حركة “طالبان”. وكان هناك اتفاق غير معلن يحمي الجانبين. لن يكون هناك إطلاق للنار.
كانت هذه طبيعة الحرب الغريبة التي خاضها الأفغان مع حركة “طالبان”، وخسروها.
يقول الرئيس جو بايدن ومستشاروه إن الانهيار الكامل للجيش الأفغاني أثبت عدم جدواه، زاعمين براءة الولايات المتحدة من جرائر الانسحاب. ولكن الانزواء غير العادي للحكومة والجيش في أفغانستان، والانتقال السياسي من دون إراقة الدماء في أغلب الأماكن حتى الآن، يشير إلى شيء أكثر أهمية.
إن الحرب التي ظن الأمريكيون أنهم يخوضونها ضد “طالبان” لم تكن الحرب التي يخوضها حلفاؤهم الأفغان. وهذا ما جعل حرب الولايات المتحدة هناك، على غرار العديد من المغامرات الاستعمارية الجديدة، محكوما عليها بالفشل منذ البداية على أرجح الآراء.
أثبت التاريخ الحديث أنه من الحماقة للقوى الغربية أن تخوض الحروب في أراضي الشعوب الأخرى، رغم المغريات. وحركات التمرد المحلية، وإن كانت تبدو أنها لا تتفوق على خصمها من حيث الحجم، والأموال، والتقنيات، والأسلحة، والقوة الجوية، وما إلى ذلك، غالباً ما تكون أفضل تحفيزاً وأقوى دافعاً من خصمها، ولديها تدفق مستمر من المجندين الجدد، وكثيراً ما تحصل على المؤن والإمدادات عبر الحدود.
وفي أفغانستان لم تكن اللعبة هي الخير في مواجهة الشر كما يراها الأمريكيون، بل كان الأمر أشبه بصراع الجار ضد جاره.
عندما يتعلق الأمر بحرب العصابات، وصف الزعيم الشيوعي السابق ماوتسي تونغ العلاقة التي لا بد أن تكون قائمة بين الشعب والقوات، فكتب قائلاً: “يمكن تشبيه الأول بالماء، ووصف الثاني بالسمك الذي يسكنه”.
وعندما يتعلق الأمر بأفغانستان، كان الأميركيون السمكة من دون ماء. تماماً كما كان الروس في الثمانينات. وكما كان الأمريكيون أنفسهم في فيتنام في ستينات القرن العشرين. وكما كان الفرنسيون في الجزائر في خمسينات القرن ذاته. والبرتغاليون خلال محاولاتهم العقيمة الحفاظ على مستعمراتهم الأفريقية في الستينات والسبعينات. والإسرائيليون خلال احتلالهم الجنوب اللبناني في ثمانينات القرن الماضي.
وفي كل مرة كانت القوة المتدخلة عسكرياً في كل هذه المواضع تعلن أن التمرد الناشئ في الداخل قد تعرض للضرب المبرح أو انقلب رأساً على عقب، في حين أن الجمر المشتعل دائماً ما كان يؤدي إلى اندلاع حروب جديدة.
اعتقد الأمريكيون أنهم تمكنوا من هزيمة “طالبان” بحلول نهاية عام 2001. ولم تعد حركتهم مبعثاً للقلق. غير أن النتيجة كانت في واقع الأمر أكثر غموضاً.
كتب العميد ستانلي ماكريستال يقول: “لقد انزوى معظمهم، ولم نكن متأكدين إلى أين ذهبوا”، على النحو الذي اقتبسه المؤرخ كارتر مالكاسيان في كتاب جديد بعنوان “الحرب الأمريكية في أفغانستان”.
في الواقع، لم تتعرض “طالبان” للضرب المبرح أبداً. وهناك العديد ممن قتلوا على يد الأمريكيين، ولكن البقية تلاشت ببساطة إلى الجبال والقرى أو عبر الحدود إلى باكستان، التي نجحت في إنقاذ الحركة منذ نشأتها.
وبحلول عام 2006، أعادت الحركة ترتيب الصفوف بما يكفي لشن هجوم كبير. وانتهت الرواية بالمهانة الأمريكية الكئيبة والتي تكشفت أماراتها على مدى الأسبوع الماضي – تكريس الخسارة العسكرية الأمريكية.
منذ عشرين عاماً – في الوقت الذي تورط الأمريكيون في مستنقع أفغانستان إلى حد مهلك – كتب باتريك شابال مؤرخ المغامرات البرتغالية الفاشلة في أفريقيا، يقول: “على الأمد البعيد، سوف تضيع كل الحروب الاستعمارية بلا طائل”.
كان تشابك القوى العظمى المستمر منذ عقدين من الزمان وهزيمتها الأخيرة أكثر إثارة للدهشة، حيث كانت الولايات المتحدة في العقود السابقة على الألفية مفعمة بالحديث عن “دروس” فيتنام المفترضة.
صرح السيناتور مايك مانسفيلد، زعيم الأغلبية السابق في مجلس الشيوخ في أواخر سبعينات القرن الماضي قائلاً في مقابلة إذاعية عن حرب فيتنام: “كان الثمن 55 ألف قتيل، و303 آلاف جريح، و150 بليون دولار. لم يكن ذلك ضرورياً، بل لم يكن مطلوباً بالأساس، لم تكن حرباً مرتبطة بأمننا أو بمصالحنا الحيوية. لقد كانت مغامرة سيئة في جزء من العالم كان ينبغي أن تبقى أنوفنا بعيدة عنه”.
قبل فترة طويلة، مع بداية “المغامرة الفاشلة” في عام 1961، كان الرئيس كيندي قد جرى تحذيره من مستنقع فيتنام من قبل سلطة لا تقل عن شارل ديغول. وفي وقت لاحق تذكر الرئيس ديغول حديثه للرئيس كيندي قائلاً: “أتوقع أن تنزلق خطوة بخطوة إلى مستنقع عسكري وسياسي لا قاع له، مهما أنفقت من أموال أو بعثت من رجال”.
ولقد تجاهله الرئيس الأمريكي تماماً. ولقد حذر ديغول الرئيس كيندي بعبارات ترمز إلى كارثة فيتنام وخيبة الأمل في أفغانستان: “حتى لو وجدت الزعماء المحليين الذين هم على استعداد لطاعتك تحقيقاً لمصالحهم الخاصة، فإن الناس لن يوافقوا على ذلك، ولا يريدونك حقاً”.
وبحلول عام 1968، كان الجنرالات الأمريكيون يزعمون أن الفيتناميين الشماليين تعرضوا “للجلد”، على حد تعبير أحدهم. وكانت المشكلة أن الخصم رفض الاعتراف بهزيمته وواصل القتال، كما لاحظ محللا السياسة الخارجية جيمس تشاس وديفيد فرومكين في منتصف ثمانينات القرن الماضي. ومن ناحية أخرى، كان حليف الأميركيين في فيتنام الجنوبية فاسداً ولم يكن يتمتع بتأييد شعبي يذكر.
إن نفس الثالوث غير المقدس للحقائق لم يتغير – “الجنرالات المتبجحون، العدو غير الراكع، الحليف الضعيف” – ويمكن ملاحظته على طول مسار انخراط الولايات المتحدة في حرب أفغانستان.
كان حرياً بالرئيس كيندي الاستماع إلى نصيحة ديغول. لم يكن الرئيس الفرنسي، على عكس نظرائه الأميركيين آنذاك ثم لاحقاً، يثق في آراء الجنرالات، ولم يكن ليصغي إلى مداهناتهم، رغم أنه البطل العسكري الأول في فرنسا
كان في ذلك الوقت يخرج بفرنسا من حرب استعمارية وحشية دامت ثماني سنوات في الجزائر، ضد الرغبات الشديدة لكبار الضباط والمستوطنين الأوروبيين الذين أرادوا استمرار الحكم الاستعماري الذي دام أكثر من قرن من الزمان. ولقد زعم جنرالاته، بحق، أن المقاومة الجزائرية الداخلية قد تحطمت إلى حد كبير. غير أن ديغول كان يتمتع بالحكمة الكافية لإدراك أن المعركة لم تنته بعد.
كان المحتشدون على حدود الجزائر هم من أطلق عليهم المتمردون “جيش الحدود”، ثم لاحقاً “جيش التحرير الوطني”، الذي أصبح اليوم “الجيش الشعبي الوطني”، الذي لا يزال العنصر صاحب الهيمنة في الحياة السياسية الجزائرية.
يقول بنجامين ستورا، المؤرخ البارز في العلاقات الفرنسية الجزائرية: “ما دفع ديغول إلى القيام بذلك هو أنهم كان لا يزال لديهم جيش على الحدود. وعليه، فقد تجمد الموقف عسكرياً. وكان منطق ديغول: إننا إذا حافظنا على الوضع الراهن فإننا نخسر الكثير. فقرر سحب الفرنسيين من السباق في قرار لا يزال يؤلمهم”.
كان زعيم “جبهة التحرير الوطني”، الذي أصبح فيما بعد أهم زعيم جزائري بعد الاستقلال، هواري بومدين، قد جسد توترات الثورة الجزائرية – وهي التوترات الغالبة – التي ستكون مألوفة لدى مراقبي “طالبان”: الدين والقومية. ولقد انقلب الإسلاميون ضده في وقت لاحق بسبب الاشتراكية. غير أن الحشود الجماعية الشعبية الحزينة التي خيمت على جنازة بومدين عام 1978 كانت حقيقية.
لقد نبعت سيطرة بومدين على الشعب من واقع أصوله المتواضعة وصلابته ضد المحتل الفرنسي المكروه. وتساعد هذه العناصر في تفسير تغلغل “طالبان” السلس تقريباً عبر جل الأراضي الأفغانية خلال الأسابيع والأشهر التي سبقت النصر النهائي الذي تحقق الأسبوع الماضي.
فقد تصورت الولايات المتحدة أنها تساعد الأفغان على محاربة آفة الشر الكريهة، ألا وهي حركة “طالبان”، المرشح البارز للإرهاب الدولي. كانت هذه هي الرؤية الأمريكية.
بيد أن كثيراً من الأفغان لم يكونوا يخوضون تلك الحرب. ينتمي أفراد “طالبان” إلى مدنهم وقراهم. وربما تغيرت أفغانستان، لا سيما في مراكزها الحضرية، عبر أكثر من 20 عاماً من الاحتلال الأمريكي. غير أن القوانين التي روجت لها “طالبان” – السياسات القمعية تجاه المرأة – لم تكن مختلفة تماماً، ولم تختلف على الإطلاق عن العادات السائدة في العديد من هذه القرى الريفية، لا سيما في جنوب البشتون.
ولقد ذكر تقرير صادر عن منظمة هيومان رايتس ووتش في العام الماضي بكل صراحة: “هناك مقاومة لتعليم الفتيات في العديد من المجتمعات الريفية الأفغانية. ومن النادر رؤية النساء من دون البرقع خارج عواصم المحافظات، حتى في أقاليم الشمال”.
وهذا هو السبب في أن حركة “طالبان” ما فتئت تفرض العدالة فرضاً منذ سنوات، ربما بوحشية في كثير من الأحيان، في المناطق الخاضعة لسيطرتها، برضا – بل وقبول – من السكان المحليين. فالنزاعات على الملكية وقضايا الجرائم الصغيرة يتم الفصل فيها على وجه السرعة، أحياناً من قبل علماء الدين -وهذه المحاكم تحظى بسمعة أنها “غير قابلة للفساد” عند المقارنة مع النظام الفاسد للحكومة السابقة، كما قالت هيومن رايتس ووتش.
إنه نظام يركز على العقاب، الذي غالباً ما يكون قاسيا. ورغم احتجاج “طالبان” خلال الأسبوع الماضي بالعفو عن الذين خدموا في الإدارة الأفغانية المنحلة، إلا أنهم لم يظهروا أي شيء من هذا التسامح في الماضي. وقد أشاع نظام السجون السرية، التي تؤوي أعداداً كبيرة من الجنود والموظفين الحكوميين، الخوف بين السكان المحليين في كافة أنحاء أفغانستان.
وتردد أن زعيم “طالبان”، الملا عبد الغني برادار، قد لقي ترحيباً كبيراً إثر عودته الأسبوع الماضي إلى مدينة قندهار الجنوبية، مسقط رأس “طالبان”. ولا بد أن يشكل هذا عنصراً آخر من عناصر التفكير في القوة العظمى التي شعرت منذ عشرين عاماً بأنها لم تجد أمامها أي خيار غير الرد العسكري على جرائم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
بالنسبة لمالكاسيان، المؤرخ الذي كان مستشاراً سابقا للقائد الأعلى للقوات الأمريكية في أفغانستان، هناك درس من التجربة، لكن ليس بالضرورة أن الولايات المتحدة كان يجب أن تبقى بعيدة. وقال في مقابلة: “إذا تحتم عليك الذهاب، فلا بد من الإدراك أنه لا يمكنك النجاح تماماً. ولا تفكر أنك سوف تحل المشكلة أو تصلح الأحوال”.
بالاتفاق مع صحيفة الشرق الأوسط