بقلم: رستم محمود – موقع الحرة
الشرق اليوم– في آلية فهم حركة طالبان الأفغانية، عقيدتها وسلوكها، ثمة نزعتان مُستقطبتان: واحدة طُهرانية، يتبناها المنخرطون في صفوف الحركة، ومعهم أغلبية واسعة من التنظيمات الإسلامي، التي لا يكاد أن يُستثنى منها أحد، ومعهم طيف واسع من الأوساط الأهلية، المحافظة والطائفية، المُسلمة السُنية تحديداً. فهؤلاء يعتبرون طالبان تمثيلاً لبراءة وقداسة “الإسلام الأول” وما كان عليه في العقود التأسيسية الأولى. إذ تُبهجهم وتغريهم المطابقة السيميائية والرمزية والكلامية والسلوكية بين مقاتلي طالبان وما يُعتقد أن الشخصيات الإسلامية المُقدسة كانت عليه في سنوات الإسلام الأولى.
على النقيض تماماً، ثمة نزعة التوحيش (من وحش) في فهمهم، التي تتبناها بشكل مشترك قوى يمينية ويسارية غربية على حدٍ سواء، ومعهم غالبية النُخب “العلمانية” والطبقات الاجتماعية العُليا وأبناء الطوائف غير السُنية في منطقتنا. تميل هذه النزعة لاعتبار مقاتلي طالبان مُجرد “وحوش”، غرباء وخارجيون عن كُل أنماط الاجتماع الآدمي، ذوو سلوكيات وعقائد أيديولوجية اعتباطية، يتبنون العنف والكراهية لتكوين عضوي في ذواتهم بشكل مُطلق.
في كِلا القراءتين، ثمة ما هو مُشترك بالرغم من التناقض الظاهري الأولي بينهما.
فكلاهما تميلان للمُطلق، الأولى نحو قداسة مُطلقة متأتية من خارج الزمان والأحداث وحركة التاريخ ومعطيات الإنتاج والمساهمة والإيجابية الحاضرة، بمعنى ما تميل لقداسة مجانية، مطلقة وخارج أية حسابات. النزعة الأخرى تفعل الأمر نفسه، عبر ممارسة التجريم التأسيسي. إذ ثمة إخراج لمقاتلي طالبان من آليات فهم العوامل التاريخية والديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أوصلت طالبان إلى هذا القعر من الوحشية.
كذلك فأنهما تشتركان في السعي للفرار من مسؤولية كُبرى، تكشفها أية قراءة موضوعية لفهم هذه الوحشية التي عليها الحركة، مسؤولية مشتركة بين ذلك التيارين المستقطبين في فهم الحركة، هُم ومؤسساتهم ونزعاتهم العقائدية.
فأفغانستان كُلها، وطالبان كتكثيف شديد التعبير عن ذلك البلد، بكُل ما فيها وما عليها، إنما هي نتاج الجمع الموضوعي لذلكم الفاعلين: الإسلام المعاصر، بموقعه وديناميكيات فعله وتاريخ تحولاته، وطبعاً بهويات وسلوكيات متبنيه السياسيين والاجتماعيين والثقافيين. وإلى جانبه “الغرب”، بآليات وأدوار ومضامين ثقافية نظيرة، من مركزية التحديث واحتكاره إلى الاستعمار والهيمنة، وكل تفصيل آخر يُمكن أن يُقال عنه.
فكل المُعبرين والمُتبين للإسلام المعاصر، السُني منه بالذات، وأياً كان موقعهم ومستويات فاعليتهم، إنما يتحملون مسؤولية أساسية عن هذه الفداحة التي اسمها حركة طالبان. فهذا التيار السياسي العقائدي، المُغلق والعنيف، إنما قائم على ترسانة صلبة من النصوص والمرويات والقيم والأحكام الرؤى التي اسمها “الإسلام في أحواله الراهنة”. حيث إن جميع المُعبرين والمتبنين والمُقدسين والفرحين بحركة طالبان، كانوا طوال أوقات سابقة من تاريخ مجتمعاتهم، حاجزاً أمام تعثر هذا الفضاء الإسلامي الكُلي في عملية التحديث ومواكبة العالم وإعادة تشكيل الذات، مثلما فعلت الأديان الأخرى. وتالياً أنتج هذا “النكوص في تحديث الإسلام” أبناء موضوعيين مثل طالبان وما يشابهها. هذه المسؤولية التي لا يُمكن لأكثر إسلامي “مُعتدل” أن يفر منها.
صحيح، يُمكن سرد عدد لا نهائي من العوامل التي أحالت دون انزياح هؤلاء الفاعلين في الإسلام نحو التحديث، لكن المحصلة تقول إن ذلك النوع من سرد العوامل أنما غالباً يدخل في باب التبرير والتبرئة، فهناك مسؤولية تاريخية على عاتق هؤلاء، بالضبط كما هي المسؤولية السياسية والأخلاقية التي يتحملها دُعاة “الإسلام الآخر” راهناً، الذين يُعلنون اختلافهم مع طالبان، لكن المتوجسين من أية مواجهة وجدانية وعقائدية مع البُنى العميقة للعقائد والسرديات والأحكام والقيم التي تجمعهم بما تتبناها حركة طالبان نفسها، وتالياً الإبقاء على ترسانة العوالم التي تقوم عليها طالبان.
على طرف نظير، فإن “الغرب” يتحمل مسؤولية موازية، وأولاً لأنه ما ترك أفغانستان لمسارها التاريخي التقليدي قط. حتى أن كل هيمنة ومركزية واستعمار “الغرب” لباقي العالم يُمكن كشفه من خلال تقفي تاريخ هذا “الغرب” في أفغانستان.
فمنذ أواسط القرن الثامن عشر، ومع تأسس المملكة الدرانية، التي كانت أفغانستان التأسيسية بمعنى ما، كانت أدوار بريطانيا في استتباعها وخلق الصراعات بين أركان حُكمها، وفي مرحلة لاحقة احتلالها عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية، وطبعاً على الدوام في صراع مرير مع المملكة الروسية عليها، كل ذلك كان ذو دور رئيسي في عزلة أفغانستان عن حركة التحديث العالمية، وتحولها السريع من هدوء العالم القديم نحو الصراعات الداخلية والإقليمية الدائمة، بكل عنفها وجبروتها وأدوارها في قتل كُل ما قد يصنع حياة موازية.
أُعيدت الحكاية نفسها طوال القرن العشرين الذي مضى، وعقدي القرن الجديد.
إذ تقاسم الإتحاد السوفياتي وخصومهم الأميركيين حرباً بينية في أفغانستان طوال عقود الحرب الباردة المديدة، التي ما كانت بادرة على الأفغان قط. ففي وقت كان السوفيات يدعمون نُخبة مدنية عسكرية مؤدلجة، تؤسس لأنظمة شمولية عسكرية تدعي تحديثاً ما، لكنه بالحقيقة مُجرد بهرجة تحديث شكلانية معزولة عن القاع الشعبي. كانت الدفة الأخرى من الصراع تدعم أعتى أنواع الرجعيات الدينية والقبائلية والمناطقية، وفقط لتحطيم المشروع الآخر.
وحدهم الأفغان كانوا حطب “صراعات الأمم”، ودفعوا أبلغ الأثمان جراء ذلك. أكثر ضرراً وتأثيراً، هو تحول النُخبة السياسية والعسكرية وحتى الثقافية والاجتماعية الأفغانية إلى ما يشبه “الجاليات الأجنبية” داخل بلادها. فكل فرد وتنظيم من هذه النُخب، يملك مجموعة ضخمة من الولاءات والحسابات مع الخارج ولصالحه، أكثر مما يملكها ويحملها لداخل أفغانستان، وهذا بالضبط أكثر ما يُنتج شكلاً من الاحتلال المديد، وغالباً بأيدي مواطني البلاد نفسها.
كنتيجة لذلك، فأن طالبان بوحشتيها وغربتها هي من منتج ذلك الاحتلال والتحطيم المديد للذات الأفغانية، التي ما سُمح لها أن تؤسس نفسها وتحفر مساراتها. فوحشية طالبان هي وحشة أعضاءها عن العالم، الغرب المُحدث منه بالذات، الذي ما توقف عن التدفق كقوة احتلال وهيمنة وإثارة داخل أفغانستان، وتالياً صار العالم بالنسبة للأفغان مُجرد حذاء عسكري وهيمنة رمزية وسياسية واجتماعي.
ما ينطبق على “الغرب” ينطبق على دول الجوار الأفغانية، باكستان التي استخدمت هذه الجماعة لعشرات المرات لصالح أمنها القومي وحسابات جنرالاتها الانقلابين، إيران التي تتلاعب بالحساسيات الأهلية والطائفية والعرقية الأفغانية منذ عقود، وتحولهم إلى مُجرد وقود في حساباتها الإقليمية.