بقلم: الحبيب الأسود – العرب الللندنية
الشرق اليوم- يدرك رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المهندس عبدالحميد الدبيبة جيدا أن مراكز القوى في الغرب الليبي تحتاج إلى زعيم لإحداث توازنات بينها، وهو ما يسعى لأن يقوم به حاليا، ولاسيما تحت الغطاء التركي بمختلف أبعاده العسكرية والأمنية والسياسية والمالية والاقتصادية وحتى الثقافية، وهو ما يعني أن زعامته لا تكتمل دون الدعم المباشر من نظام أردوغان الذي بات يمثّل القوة الأبرز في طرابلس، ولكن الأتراك لهم شروطهم لدعم هذه الزعامة، ومنها تشريع بقائهم الدائم وتنفيذ أهدافهم في السيطرة على السوق التجارية والصفقات الكبرى لإعادة الإعمار ومنحهم التعويضات التي يطالبون بها عن عقود مبرمة مع النظام السابق، وفوق كل ذلك فرض وصايتهم على الشأنين الاقتصادي والثقافي بما يجعل غرب ليبيا (في مرحلة أولى) أبرز مركز للنفوذ التركي في شمال أفريقيا، وبرؤية ربطوها بتاريخ الاحتلال العثماني وبالهوية العرقية المزعومة لنصف سكان المنطقة الغربية ممن اعتبرهم أردوغان أتراكا بالوراثة.
عندما دعت اللجنة العسكرية المشتركة الأسبوع الماضي إلى ضرورة انسحاب كافة المقاتلين الأجانب دون استثناء، وتعليق التعامل بالاتفاقيات ومذكرات التفاهم مع جميع الدول، بما في ذلك المذكرة المبرمة بين فايز السراج وأردوغان في نوفمبر 2019، وحذرت من خطر العودة إلى مربع الحرب في حالة عدم تنظيم الانتخابات، وجدت نفسها في عين العاصفة وتعرضت إلى سيل عارم من الانتقادات وحملة من التخوين والتكفير والتشويه، ولم يكن الدبيبة بعيدا عن تلك المواقف، حيث أكد لعدد من أعضاء اللجنة ضرورة التنسيق المسبق معه في الإجراءات المتخذة والقرارات ومراجعتها لتكون متجانسة مع خطة الحكومة، وذلك في إشارة منه إلى رفضه لمخرجات اجتماع سرت في الرابع عشر من يوليو، لكن بالمقابل لا يستطيع الإعلان مباشرة عن موقفه من اللجنة ولا التدخل المباشر في تركيبتها وفي طبيعة أعمالها وأهدافها، نظرا لما تحظى به من دعم الأمم المتحدة، ومن ثقة المجتمع الدولي، بعد أن أثبتت خلال الأشهر الماضية أنها الأكثر جدية في العمل على حلحلة الأزمة الميدانية والخروج بنتائج إيجابية في اتجاه الوقف النهائي لإطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين وإعادة فتح الطريق الساحلية.
في كثير من المناسبات أحرجت اللجنة العسكرية المشتركة الدبيبة، ففي العشرين من يونيو الماضي ذهب إلى غرب سرت ليعلن من هناك عن فتح الطريق الساحلية كتأكيد على نجاح حكومته في طي جزء من صفحات الانقسام، وذلك قبيل مؤتمر برلين 2 الذي انعقد في الثالت والعشرين من يونيو، ولكن الافتتاح الفعلي لم يتم إلا في الثلاثين من يوليو، بما يعني أن حركته كانت استعراضية بالدرجة الأولى ودون تنسيق يتطلبه الموقف والوضع الميداني مع “5+5”، وفي التاسع والعشرين من يونيو وجه المجلس الرئاسي خطابا إلى الدبيبة دعاه من خلاله إلى ضرورة تعيين وزير للدفاع بدل استمراره في تولي المنصب إلى جانب رئاسته للحكومة، وتبين لاحقا أن المقترح صادر عن اللجنة العسكرية التي أكدت عليه في بيانات متعددة وفي رسائل توجهت بها إلى الجهات التنفيذية والتشريعية، لكن الدبيبة رفض الامتثال لها، وهو يصر على البقاء وزيرا للدفاع لأسباب عدة، بعضها كان فسره أمام مجلس النواب في منتصف مارس الماضي عندما قال إن التجاذبات الداخلية والخارجية دفعته إلى تولي المنصب بصورة مؤقتة، وبعضها الآخر يعود إلى أن حقيبة الدفاع من حق إقليم فزان، بينما لا تريد مراكز النفوذ التركي والإخواني والميليشياوي في غرب ليبيا التفريط فيها، إلا إذا كانت ستؤول إلى شخصية محسوبة عليها مثل صلاح الدين النمروش وزير الدفاع في حكومة السراج، وهو ما لا يقبله الطرف المقابل في المنطقة الشرقية.
جاءت حكومة الوحدة الوطنية بقرار دولي وغطاء أممي من اجتماع جنيف لملتقى الحوار السياسي في الخامس من فبراير في ظل ظروف مشكوك في نزاهتها، ورغم ذلك كان من المفترض أن تقود مرحلة انتقالية تنتهي مع انتهاء دورها في تأمين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرى الاتفاق المبدئي على أن تنتظم في الرابع والعشرين من ديسمبر تزامنا مع الذكرى السبعين لاستقلال البلاد وتأسيس الدولة الليبية الحديثة، لكن سرعان ما استكانت، ومعها المجلس الرئاسي، إلى الوضع القائم على الأرض، ودخلت في لعبة التوازنات الداخلية في غرب البلاد بمهادنة الميليشيات والخضوع لسطوة تيار الإسلام السياسي ولأمراء الحرب الذين تمكن عدد كبير منهم من مفاصل الدولة بعد أن عينهم السراج في مراكز القرار الأمني والعسكري، وإلى اليوم لا تزال الميليشيات تتحكم في كواليس الأمن والسياسة، وبعضها لا يزال يدير سجونا خارجة عن سلطة الحكومة كتلك التي أشارت إليها وزيرة العدل مؤخرا، ويحول دون تنفيذ أحكام القانون المتعلقة بالإفراج عن أبرياء بقرار أعلى درجات القضاء، ولا يزال يقطع الطريق أمام تنفيذ كافة بنود الاتفاق العسكري.
كما سعى الدبيبة لممارسة التذاكي على المحور الإقليمي الذي كان محسوبا على دعم الجيش، وذلك بغاية تحييده من الصراع الداخلي، فزار مصر والإمارات والكويت وأشاد بالدور السعودي، وبالمقابل لم يزر قطر، فيما زار تركيا في خمس مناسبات، وزار باريس وفتح معها جسورا وطيدة للتعاون، وذهب إلى موسكو لإرسال وعود بإعادة العلاقات بين البلدين إلى سالف نشاطها وثرائها وقوتها، وكانت تلك التحركات محسوبة بمصالح مراكز النفوذ التي تقف وراءه، فحتى يستطيع محور ما السيطرة الكاملة، لا بد من التخفيف من تأثيرات المحور المنافس أو المعادي، سياسيا وإعلاميا على الأقل، ليصل البعض إلى الجزم بأن الجيش بقيادة حفتر فقد تحالفاته الخارجية ولم يعد له جهة يستند إليها، وبات متروكا للحظة حاسمة تقرر فيها الميليشيات الهجوم على قواته بدعم مباشر من الأتراك ليتم إخراجه من المناطق الثرية بالنفط والغاز في مناطق الهلال النفطي والواحات والجنوب الغربي، وحصر قبائل برقة في إطار جغرافي ضيق، فيكون أمامها حلان لا غير: التمرد على قيادة الجيش والإطاحة بها، أو إعلان كيان مستقل محروم من ثرواته ومقدراته الطبيعية.
الدبيبة سعى لممارسة التذاكي على المحور الإقليمي الذي كان محسوبا على دعم الجيش وذلك بغاية تحييده من الصراع الداخلي فزار مصر والإمارات والكويت وأشاد بالدور السعودي وامتنع عن زيارة قطر
يحاول الدبيبة أن يستفيد من الإعلام الغربي في توجيه رسائل طمأنة إلى المجتمع الدولي، فهو يتحدث عن اتصالات مع قيادة الجيش لا تتم على أرض الواقع ويقول إن الحرب لن تعود أبدا إلى ليبيا، بينما تحذر اللجنة العسكرية المشتركة من اندلاعها من جديد في حالة عدم تنظيم الانتخابات في موعدها ويهدد أمراء الحرب بإشعالها من جديد حتى أن البعثة الأممية دعت الأسبوع الماضي إلى ضرورة التراجع عن التحشيد على الجبهات، وهو يعلن أنه لا يمانع ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات بما يمثله من حضور طاغ لدى أنصاره، وفي ذلك الوقت يصدر المدعي العام العسكري الخاضع لسيطرة الحكومة أمرا بضرورة ضبط وإحضار ابن الزعيم السابق.
كما يؤكد الدبيبة في كل مناسبة أنه يدعم مفوضية الانتخابات، وأن الاستحقاق سيتم في موعده المحدد، وأنه سيسلم السلطة لمن يختاره الشعب، وبالمقابل يعمل المقربون منه والمحسوبون داخل ملتقى الحوار السياسي على عرقلة إيجاد القاعدة الدستورية، أو إيجادها ضمن إطار يقطع الطريق أمام الانتخابات الرئاسية أو يشرعنها بشروط مجحفة يضعها الإخوان وحلفاؤهم في الداخل والخارج، وهو ما سيؤدي إلى تأجيل الانتخابات، لتستمر الحكومة في عملها إلى أجل غير مسمى، فكل طرف فاعل على الأرض لديه حساباته، وكما للدبيبة وجماعته مصالحهم التي يعملون على تحقيقها، فإن لقيادة الجيش والبرلمان والفعاليات القبلية وأنصار النظام السابق وحتى المختلفين مع مشروع الطرف المعرقل مصالحهم التي لا يقبلون التنازل عنها.
إن صراع الدبيبة من أجل البقاء مرتبط كذلك بجهده اليومي لوضع يده على مقدرات الدولة، وبتصرفه في جانب منها لخدمة صورته في المجتمع، وكذلك بتحالفه الواضح مع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، وبالحرب المعلنة على رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في إطار حرب صلاحيات تحاول وزارة النفط ذات العلاقة المباشرة مع ديوان الحكومة كسبها، وهي وزارة تم تأسيسها في إطار التشكيل الأخير لتكون عنصر تجاذب مع المؤسسة المركزية، كما أن الفشل في التوصل إلى تنفيذ اتفاق بوزنيقة حول التعيينات الرئيسة في المؤسسات السيادية، والذي يقف وراءه مجلس الدولة الاستشاري الخاضع لسيطرة الإخوان ليس بعيدا عن محاولة التمكين للدبيبة وحكومته.
كما أن التسريبات الحديثة حول تعيينات دبلوماسية ينوي الدبيبة تمريرها خلال الأيام القادمة، ولاسيما في عواصم ذات تأثير بالغ في القرار الدولي، تؤكد أنه يرغب في إحاطة نفسه بحزام داعم على مستوى العلاقات الخارجية، يكون مرتبطا به شخصيا وبمكتبه وليس بوزارة الخارجية التي تديرها نجلاء المنقوش الوزيرة المثيرة للجدل والمرفوضة من قبل الإخوان والدائرين في فلكهم والتي تتعرض منذ فترة طويلة إلى حملات دعائية معادية تستهدفها شخصيا كما تستهدف أداءها ومواقفها، لتجد نفسها شبه معزولة عن مركزها السيادي.
يبدو واضحا أن الدبيبة يستفيد من مركز عائلته الموسعة المالي والاجتماعي والإعلامي، ويعتمد بشكل كبير على العصبية القبلية والجهوية والمناطقية لتوسيع نفوذه السياسي، وهو في أحيان كثيرة يتحرك بمنطق رجل أعمال وشيخ قبيلة ورمز لسلطة مدينة مصراتة في المنطقة الغربية، وفي ذات الوقت يستغل نزعة التسلط والمغالبة الوهمية لدى الإخوان وأمراء الحرب وقادة الميليشيات، ومن يعتبرون أنفسهم أوصياء على “ثورة 17 فبراير” ومؤتمنين على أهدافها فيما هم يستغلون شعاراتها لمصالح أيديولوجية وسياسية وحزبية وفئوية وشخصية، ويجيّر مخاوفهم من فشل محقق في الانتخابات المقررة للرابع والعشرين من ديسمبر، للعمل على الاستمرار في السلطة، ولو أدى ذلك إلى حالة انقسام جديد في البلاد.