بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- بعد عشرين عاماً من الإقامة الصعبة والنزيف البشري والمادي، خرج الجيش الأمريكي من أفغانستان من دون أن يحصد ثمار غزوه العسكري. الحقائق شاهدة ودامغة؛ ما برحت حركة “طالبان” في عنفوانها قوية متماسكة لم تنل منها معارك العقدين الماضيين؛ وكأن شيئاً لم يتغير في أفغانستان. كأن مليارات الدولارات، التي صبت في رصيد بناء الجيش النظامي وتأهيله لقتال مسلحي الحركة، إنما هو كالماء وقد صب على رمال.
لم تفعل الولايات المتحدة الأمريكية في كل هذه الفترة المديدة، عملياً، سوى أنها تبرعت لحركة “طالبان” بصفة الحركة الوطنية التي قاتلت من أجل دحر الاحتلال الأجنبي وأدواته المحلية. سيفيدها ذلك في إعادة إنتاج صورة أخرى لها غير تلك التي ترسخت عنها قبلا: حركة سياسية تقليدية. وليس من شك في أنها ستستثمر هذا “الرأسمال الوطني” لإحكام قبضتها على البلاد باسم الشرعية الوطنية التحريرية هذه المرة.
بهذا المعنى والمعيار، تكون حركة “طالبان” وحدها كسبت حرب أفغانستان؛ لأنها حفظت بقاءها وقواها، وأفسدت على الولايات المتحدة هدف تصفيتها الكاملة ومحوها، وعادت إلى السلطة: إن برضا من واشنطن أو من غير رضاها. أما أمريكا فخرجت من مغامرة الاحتلال خاسرة بجميع المقاييس. وليست الخسارة، فقط، في أن “طالبان” عادت إلى صدارة المشهد؛ بل لأن عودتها ستضخ الحياة، مجدداً، في مشروع “طريق الحرير” الذي يقوده عدو أمريكا الأكبر (الصين الشعبية)، والذي يلحظ مكانة لأفغانستان في خطه الجغرافي الممتد والعابر للقارات.
تحصد الولايات المتحدة الأمريكية الثمرات المرة لأخطائها؛ لنزعة جنون العظمة التي تسكنها وتتولد لديها من معتقد تقديس القوة. إنها عينها أخطاؤها التي أخرجتها مدحورة من فيتنام قبل نيف وأربعة عقود؛ والتي انتهت بها إلى التضحية بمحمد رضا بهلوي، شاهنشاه إيران، وفقدان حلفائها السابقين في كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا؛ وهي عينها الأخطاء التي ارتكبتها في إدارة عملية “الربيع العربي”، وإنتاج نخب “إخوانية” حاكمة سقطت تباعاً. ها هي استراتيجياً “الفوضى الخلاقة”، إذاً، تبلغ نهاياتها الدراماتيكية لتتجرع القوى “العظمى” مراراتها، ولتتجرع البلدان التي وقعت عليها أضعاف أضعاف تلك المرارات!
من ذا الذي سيسائل، إذاً، سياسات أمريكا عن إخفاقاتها؛ وإخفاقها في أفغانستان بالذات؟ الجمهوريون؟ هؤلاء مسؤولون عن قرار الانسحاب منذ إدارة الرئيس ترامب، ولا يملكون تحويل الإخفاق إلى موضوع للمضاربة السياسية في الكونجرس. الصحافة والإعلام؟ هذه كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية تهيئة الرأي العام لخيار الانسحاب، وبعضها حرض عليه منذ سنوات عدة، مستثيراً الرأي العام بسيل من المعلومات عن الخسائر البشرية والمادية المهولة التي تتكبدها أمريكا من وراء بقاء قواتها في أفغانستان. النخب الثقافية والفكرية؟ من ذا الذي يسمع، من الدولة والمجتمع، ما يقوله المثقفون والمفكرون وما ينبهون إليه وما ينبهون عليه؟
لقد ذهب الأمريكيون إلى القتال في أفغانستان ولم يسألهم أحد من الشعب و”الرأي العام”: إلى أين أنتم ذاهبون، حتى لا نقول ذهبوا محمولين على تأييد مجتمعي عارم صنعته أهوال أحداث 11سبتمبر 2001 واتهام “القاعدة” بتدبيرها.
وها هم، اليوم، يخرجون منها مطمئنين إلى أن أحداً لن يسألهم: لماذا غادرتم؟ لأن السائل شريك في ما جرى خلال هذه العشرين عاماً. أما في العالم الخارجي، وفي أوساط الحلفاء الغربيين فلن تتوقف واشنطن، كثيراً، عند من سيؤاخذونها على قرار الانسحاب؛ فهم شركاء فيه، ومن لديه الهمة والقوة منهم فليبق وحده في المستنقع الأفغاني.
طبعاً آخر من سيسائله شعبه هو حركة “طالبان”؛ إذ ليس لشعبها من حول ولا قوة في ما جرى وفي ما سيجري. من ارتضى العيش في أكناف سلطتها سيبقى، ومن أبى سيرحل مكرهاً إلى بلد آخر.
جنون القوة والسياسة لا يجتمعان؛ كما تعلمنا ذلك دروس الخبرة التاريخية. السياسة حساب عقلاني دقيق للموارد والإمكانيات والاحتمالات والمتغيرات، وعلى ذلك الحساب تتوقف النتائج والمآلات. لا مكان في هذا كله لغطرسة تطل من شقوق النفس وتستسهل المخاطر والصعاب، ذلك أن أيلولتها إلى الخيبة والانكسار. وإذا كان هذا من مألوفات السياسة في دول صغرى تفتقر إلى العقلانية والمؤسسية، فإن الأدعى إلى الغرابة أن يحدث ذلك في دولة كبرى، مثل الولايات المتحدة، ذات تقاليد عريقة في السياسة الحديثة.