الشرق اليوم- منذ استقلال الهند، دائماً كان مصير البلد على ارتباط وثيق ببقية دول العالم، فعلى مستوى معيّن، لم تكن الهند تملك خياراً آخر لأن هذا البلد الشاسع والفقير والمستقل حديثاً والمتنوع بدرجة استثنائية كان يحتاج إلى التزام جدّي مع شركاء مختلفين لضمان صموده وأمنه ونموه.
لكنّ البيئة الدولية التي لا تكف عن التطور منحت الهند فرصاً مهمة فضلاً عن تحديات كثيرة، اليوم قد تبدو الاضطرابات هائلة، وعلى رأسها استفحال وباء كورونا وآثاره المعاكسة على فرص النمو الاقتصادي، لا سيما إذا تزامن مع احتدام المنافسة مع الصين وتفاقم الاضطرابات في أفغانستان، في الوقت نفسه، تملك الهند وسائل كثيرة للتعامل مع هذه المشاكل، فهي تشكّل سادس أكبر اقتصاد في العالم، وتملك جيشاً محترفاً ومُدرّباً، وتتكل على شبكة متوسّعة من الشركاء الاستراتيجيين والاقتصاديين الدوليين، وتثبت هذه اللمحة السريعة أن مستقبل الهند يتداخل أيضاً مع الشؤون العالمية.
اضطرت الهند لتبنّي موقف خارجي وأمني قبل 15 أغسطس 1947، فأنتجت حقبة الاستقلال والتقسيم إرثاً فوضوياً على مستوى تجزئة الأراضي، وقرر قادة الهند الأوائل إقامة علاقات مرنة وودّية مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في آن ومع حلفائهما، وفي البداية استفادت الهند من منافع التنمية والمساعدات العسكرية الغربية، ولم يقدم لها الاتحاد السوفياتي الدعم قبل منتصف الخمسينيات، كذلك، أدت الهند دوراً ناشطاً في إنهاء الاستعمار حول العالم، فقدّمت مساعدات دبلوماسية وأمنية (في بعض الحالات) إلى الحركات الاستقلالية في آسيا وإفريقيا، وأرسلت بعثات عسكرية إلى كوريا والكونغو.
بشكل عام، نجحت جهود الهند الأولية في ترسيخ المكاسب على مستوى الأراضي وتسريع النمو الاقتصادي وإعطاء البلد دوراً قيادياً في العالم بعد حقبة الاستعمار، ثم تعثرت هذه الجهود كلها بعد الحرب مع الصين في عام 1962، لكن رغم هذه الانتكاسة الهائلة، عاد العالم ليطرق باب الهند على مر الستينيات، وفي غضون ذلك، تصاعدت المغامرات الباكستانية العسكرية، مما أدى إلى اندلاع الحرب في عام 1965، ثم زادت أهمية الأسلحة النووية الهندية بعد الاختبار الصيني، وراحت القوات الهندية تتصدى للصين في “سيكيم” في عام 1967، كذلك، تحققت خطوات اقتصادية مهمة، منها الثورة الخضراء التي ارتكزت على نسبة كبيرة من المساعدات التقنية والمالية من الخارج.
واجهت الهند خلال السبعينيات والثمانينيات تطورات أخرى، وأدت معاهدة الصداقة والتعاون بين الهند والاتحاد السوفياتي وحرب بنغلادش إلى تغيير علاقات الهند مع القوتَين العظميين وتبديل الديناميات التي تحكم المنافسة القائمة مع باكستان، وبقي الاقتصاد الهندي منغلقاً نسبياً في تلك المرحلة، في حين بدأت الاقتصادات الآسيوية الأخرى تتحرر، كذلك، شهدت هذه الحقبة تحديات أمنية أقرب إلى الهند، منها التفجير النووي السلمي، وضمّ “سيكيم”، والمنافسة مع باكستان على “سياتشن”، والمواجهة مع الصين، والتدخل في سريلانكا، وانقلاب مضاد في المالديف، كذلك حملت التحديات الأمنية المحلية جانباً خارجياً في البنجاب، وجامو وكشمير، وتاميل نادو، والشمال الشرقي، ثم بُذِلت جهود حثيثة لإعادة ضبط العلاقات مع الولايات المتحدة وتحرير الاقتصاد وتقييم الخيار النووي، لكن بقيت النتائج غير جازمة.
اعتباراً من عام 2013، بدأت الصين المتوسّعة تستفز الهند على الحدود وتُضعِف مصالحها في جنوب آسيا ومنطقة المحيط الهندي، وبعد ثاني أزمة حدودية مماثلة في أواخر عام 2014، احتدمت المنافسة بين الهند والصين، وعلى صعيد آخر، بُذِلت جهود كثيرة للتقرب من باكستان بين العامين 2014 و2016، لكن أدت سلسلة من الاستفزازات الباكستانية إلى تجميد العلاقات بين الهند وباكستان، ثم ترسّخ هذا الجمود بسبب اعتداءات إرهابية استهدفت معسكر أوري وبولواما وردّ الهند عليها، وفي غضون ذلك، زادت أهمية علاقات الهند مع شركائها في غرب آسيا.
دائماً كانت أهداف الهند متماسكة بشكل عام، فهي تصبو إلى تحقيق التنمية والأمن الإقليمي، والحفاظ على ميزان القوى، وحصد إجماع دولي يخدم المصالح الهندية، وفي الوقت نفسه، تبدّلت الوسائل التي تستعملها الهند وتغيّر المشهد الدولي ولم تعد العوامل السياسية المحلية على حالها، وفرض هذا الوضع مقاربات مختلفة للتعامل مع الالتزامات الدولية بين العامين 1947 و1962، وبين 1971 و1991، وبين 1991 و2008.
مع دخول الهند عامها الخامس والسبعين بعد الاستقلال، تتعدد الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل الحذر بشأن مكانة البلد في العالم، لكن تفشي فيروس كورونا وتوسّع المنافسة الدولية يكشفان حجم المصاعب التي ستواجهها الهند على الأرجح فيما تسعى للتحول إلى بلد مزدهر ذي دخل متوسط ونظام حُكم آمن وشريك استباقي في تحديد المعايير الدولية. الأمر المؤكد هو أن الهند لن تحصل على فرصة للتركيز على شؤونها الداخلية حصراً، فقد وجد هذا البلد هويته الحقيقية على مر تاريخه بعد الاستقلال من خلال تفاعلاته العالمية.
بالاتفاق مع صحيفة الجريدة