الرئيسية / مقالات رأي / مصير الدولة الفاشلة: أفغانستان ولبنان أنموذجاً

مصير الدولة الفاشلة: أفغانستان ولبنان أنموذجاً

بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة

الشرق اليوم- قد تُزعج نرجسية زعمائنا الأشاوس وبعض النخبويين من دعاة الأصالة والمدافعين عن عمقنا الحضاري وصفُ بلداننا بالدولة الفاشلة، ويعدّونه نوعاً من المسير الأعمى خلف ما تقرره البلدان المتقدمة ومراكز بحوثها. لكن لا تزعجهم أبداً الأرقام والمؤشرات التي تعتمدها سنوياً مجلة فورين بوليسي بدعم من صندوق السلام الأميركي في التصنيف السنوي لـ 178 دولة! ولا تثير قلقهم التقارير المرعبة عن متلازمة الفقر والبطالة والفساد وانعدام الأمن والانقسامات والحروب الداخلية التي خلَّفت وراءَها جيوشاً من الأرامل والأيتام في دولنا الفاشلة.

أجد في وصف الدولة الفاشلة أكثر مصداقية من استبداله بالدولة الهشة الذي اعتمده تقرير صندق السلام ابتداءً من 2016، لأن وصف الفشل ينطبق تماماً على الدول التي تعجز عن الوفاء بالتزاماتها في توفير الحاجات الأساسية لغالبية شعوبها، والتي لم تراجع واقعها ورسخت السياسات العبثية والفوضوية في الحكم، ولم تولِ اهتماماً لمؤشرات تصاعد الفساد واتساع الفجوة بينها وبين مواطنيها، وانهيار حكم القانون وتخاذل الحكومات عن مهمتها الرئيسة باحتكار وظيفة الأمن وسيطرة مافيات السياسة والسلاح وفرض نفوذها على الدولة والمجتمع. 

لذلك ما يحدث في أفغانستان هو نتيجة طبيعية لمصير الدولة الفاشلة، فهي النموذج الأبرز لهذه الدول، فعلى طوال ستة عشر عاماً لم تغادر المراكز العشر الأولى في تصنيف الدول الأكثر فشلاً. والانهيار السياسي والأمني في أفغانستان لم يكن ليحدث لو لم يتم سحب الدعم الخارجي عن هذا البلد، وتحديداً انسحاب الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت البلاد لمحاربة تنظيم القاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وبعد عشرين عاماً فشل الأمريكان والنخب السياسية في أفغانستان في بناء دولة. 

المهم في الموضوع أن مصير الدولة الفاشلة يبقى مرتهناً إلى الإرادات الخارجية، فمتى ما تتخلى الدول الخارجية الفاعلة والمؤثّرة في القرار السياسي للدولة الفاشلة عن حكومات تلك الدولة، أو تنهي الدعم السياسي والأمني أو الاقتصادي الذي توفرها لها ستكون هذه البلدان أمام مصير محتوم هو الانهيار، وتحديداً إذا كانت تفتقد نظام حكم المؤسسات والتماسك السياسي-الاجتماعي. 

في دراسة مهمّة قدمتها “كاتي كليمنت Caty Clément” الزميل المشارك في مركز جنيف للسياسات الأمنية، إلى جمعية العلوم السياسية الأميركية في 2005، أشارت إلى التفكيكية لانهيار الدولة و”ماذا يفعل فشل الدولة؟” وأن هناك أربعة متغيّرات أساسية يمكن أن تؤدّي إلى انهيار الدولة الفاشلة، ثلاث من هذه المتغيرات ترتبط بالبيئة السياسية الداخلية: مثل العامل الاقتصادي ونمط الاقتصاد السياسي، وقوة جماعات الهويات الفرعية (القومية، الدينية، الطائفية)، وفشل نظام الحكم في إدارة واحتواء الصراعات السياسية.

أما المتغير الرابع فيتمثل في “تناقض في البيئة الخارجية”: أي التحول في البيئة الدولية من التدخل للحفاظ على تماسك الدولة إلى عدم التدخل، بصرف النظر عن درجة تماسكها الداخلي. في القرن الماضي بقاء كثير من الدول الضعيفة في فترة الحرب الباردة كان بسبب دعم أحد القطبين، ومع نهاية هذه الحرب حدثت موجة من الانهيار لدول في أوربا الشرقية وإفريقيا، بسبب زاول أشكال الدعم والمساندة الخارجية.

تجادل دراسة كليمنت ومن خلال تراكم الملاحظات في متابعة نماذج محددة من الدول، أن الدولة ستبقى تدور في دوامة الفشل إذا كانت تواجه تفاعل المتغيرات الثلاث في البيئة السياسية الداخلية، لكنّها ستتحول من الفشل إلى الانهيار إذا تفاعلت المتغيرات الداخلية مع تغير البيئة السياسية الخارجية. بعبارة أخرى، ستبقى الدولة فاشلة وتواجه الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية لكنّها لن تنهار بسبب وجود دعم خارجي لها، حتى وإن كانت فاشلة. لكن تفاعل الأزمات الداخلية مع سحب دعم الأطراف الخارجية أو تغير في مواقفها حينها سيؤدي حتماً إلى انهيار الدولة الفاشلة. 

إذاً، في أفغانستان كان الانهيار واقعاً لأن تراكمات الفشل كانت واضحة طوال العشرين عاماً على التغيير السياسي، لكنه كان مؤجلاً لحين رفع الدعم الخارجي عن النظام السياسي والحكومة في البلاد. ولذلك لم تنفع تنظيرات الرئيس الأفغاني أشرف غني عن إصلاح الدولة الفاشلة في إنقاذ كابل من الانهيار أمام تقدم حركة طالبان، لأنها لم تتحول إلى واقع وإنما بقيت في طيات كتابه. 

انهيار الدولة الفاشلة بسبب رفع الدعم الخارجي، لا يقتصر على الجوانب السياسية والأمنية، إذ ليس بعيداً عن أفغانستان، يسير لبنان بخطوات متسارعة لمنافسة الدول المتصدرة قائمة الفشل. إذ باتت ملامح الانهيار المتسارعة واضحة في معظم نواحي حياة الناس، ويوماً بعد آخر يختبر اللبنانيون في يومياتهم انعكاسات الانكماش والكساد الاقتصادي وعجز الدولة عن توفير الخدمات العامة والسلع الأساسية، كالوقود والدواء، وكذلك من مشقة الحصول على الخدمات المُلحة كالطبابة والدواء، وتفاقم كل ذلك مع خسارة قيمة مدخراتهم.

في قائمة الدول الفاشلة كان لبنان في عام 2006 يحتل المرتبة 65، لكنه اليوم يتراجع 31 مرتبة بعد أن احتل المرتبة 34 في عام 2021. ويأتي ذلك انعكاساً لتفاقم مؤشرات انقسام النُّخَب والجماعات السياسية، والانحدار الاقتصادي، وفقدان مشروعية الدولة، وتراجع أوضاع حقوق الإنسان وحكم القانون، وازدياد معدلات النزوح والتهجير. 

ما يحدث في لبنان من انهيار اقتصادي هو نتيجة طبيعية لدولة فاشلة رهنت اقتصادها لإرادات خارجية، وبقيت تعتاش بطريقة طفيلية على مساعدات بشروط سياسية تقدمها الدول إلى لبنان، وعندما توقفت تلك المساعدات ظهر الوجه الحقيقي للخراب والفساد الذي تديره مافيات سياسية واقتصادية. ولحد الآن يتأمل الكثير من السياسيين في وصول الدعم الخارجي الذي ينقذ لبنان من الأزمة الاقتصادية.

لبنان نموذج لدولة أوصلها زعماء الطوائف السياسية وأمراء الحروب إلى صدارة الدولة الفاشلة بسبب الولاءات الخارجية التي تعطي الأولوية بالولاء لمحاور إقليمية على حساب مصالح دولتهم وشعبهم. ولذلك لا تزال تلك الأطراف غير مهتمة لصرخات الفقراء والمحرومين من انعدام أبسط متطلبات العيش بكرامة، رغم أن الزعامات في لبنان تصدح في كل مناسبة بشعارات العزة والكرامة!

لا يختلف الانهيار الاقتصادي عن الانهيار السياسي في مصير الدول الفاشلة التي يعتمد بقاء نظام حكمها وإدارتها للدولة على الإرادات الخارجية، ويبدو أن الكثير من دولنا تواجه نفس المصير ما دامت قياداتها لا تريد بناء دولة، وتريد ربط مصير البلاد بإرادات الدول الفاعلة إقليمياً أو دولياً، وليس مهماً إذا كان الثمن دمار البلدان أو انهيار اقتصادها ما دام البقاء بالحكم رهناً برضا وموافقة دولة أجنبية، وليذهب الشعب والوطن إلى الجحيم!

شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …