بقلم: منير أديب – النهار العربي
الشرق اليوم- السقوط السريع للعاصمة الأفغانية كابول ربما يُعزز وجهة نظرنا بأن أمرها كان مدبرًا وفي وضح النهار، وأن خروج الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان بالطريقة التي تابعناها يدل على أن “طالبان” سوف تسيطر على الحكم لا محالة، ليس هذا فحسب وإنما بنفس السرعة التي سقطت بها كل الولايات الأخرى.
وهنا نحن لا نتحدث عن قدرة طالبان في احتلال كل المدن والولايات الأفغانية في وقت قياسي، وإنما نتحدث أيضًا عن سقوط وتهاوي الحكومة الأفغانية بسرعة شديدة، والأخطر تهاوي الجيش الأفغاني، الذي بنت قدراته الإدارة الأميركية على مدار عقدين من الزمان، وهذا بيت القصيد.
أعلنت الاسخبارات المركزية الأميركية على لسان متحدثيها أن سقوط أفغانستان في يد حركة “طالبان” قد يأخذ ثلاثة أشهر، بينما عادت وقالت إنها سوف تقوم على محاصرة كابول بعد سقوط كامل الولايات والمدن في يدها، وأنها لن تسقط قبل شهر، وأعادت حديثها بأن سقوط أفغانستان قد يستغرق ثلاثة أشهر!
ونقلت وكالة “رويترز” هذا التصريح عن ضباط في الاستخبارات المركزية الأميركية لم يكشفوا عن هويتهم، ورغم أنه اعتراف بسقوط كابول في يد “طالبان” إلا أننا توقعنا أن السقوط سوف يكون في غضون أسابيع قليلة بل وأيام، وهذا التوقع كان مبنيًا على سقوط أغلب الولايات والمدن الأفغانية والذي لم يأخذ وقتًا، بل كان متسارعًا للحد الذي توقعنا معه أن سقوط كابول سوف يكون خلال سويعات قليلة.
المشكلة كما أشرنا سابقًا ليست في قوة “طالبان”، فقد سيطرت الحركة على أفغانستان ببعض الأسلحة الخفيفة، فأتباع الحركة كانوا يدخلون الولايات على الدراجات البخارية لا المدرعات المجهزة وبإستسلام حكامها وقيادات الجيش، وهو ما يدل على ضعف الجيش، الذي لم يواجه مقاتلي هذه الحركة رغم امتلاكه لسلاح طيران وأسلحة أميركية متطورة للغاية.
أدركت الحكومة الأفغانية رغبة الولايات المتحدة في سيطرة الحركة على الحكم، ولعل ذلك ظهر جليًا في تصريحات الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، وفي تصريحات سلفه، حامد كرازاي، فكل منهما أشار إلى أن إنسحاب أميركا بهذه الصورة يعني سيطرة حركة “طالبان”، بل ذهبا إلى أن وجود الولايات المتحدة في أفغانستان كان خدعة، فلم يكن الهدف منه حماية أفغانستان من خطر “طالبان”، بدليل خروج القوات الأميركية بهذه الصورة التي مكنتها من كل شيء وبطريقة ميسورة.
عندما حاولت الولايات المتحدة الأميركية دخول العاصمة كابول بعد سيطرتها على كل المدن والولايات المتحدة الأميركية لم تجد من يقاومها أو يشتبك معها ولو لأيام او حتى لساعات، وهو ما يدل على ضعف أجهزة الدفاع الأفغانية وإدراكها أن أي دفاع أو مواجهة مع حاملي البنادق من حركة “طالبان “سوف يكلفها الكثير، فاختصرت على نفسها.
عاشت “طالبان” 20 عامًا في أفغانستان، وقد اشتد عودها في ظل وجود الأميركيين، حتى بات لها قرابة 60 ألف مقاتل، على أقل التقديرات، فواشنطن لم تواجه الحركة أثناء وجودها في أفغانستان بل سمحت لها بالوجود والتسلح والانتشار الذي باتت عليه أقوى من الحكومة والجيش الأفغاني المدعوم أميركياً؛ قراءة تفاصيل هذه الصورة دفعنا لتوقع السقوط في غضون أيام قليلة بنفس الطريقة التي حدثت “استسلام كامل بلا أي نوع من المقاومة”.
ليلة سقوط كابول كانت حزينة ولكن الحزن الحقيقي في دور الولايات المتحدة الأميركية، التي ادعت مواجهة “طالبان” و”القاعدة” في أفغانستان، بينما هي من سلمتها للحركة والتنظيم معًا، وهو ما يدفعنا للعكوف على دراسة استراتيجية واشنطن في مواجهة الإرهاب والتي ثبت فشلها، الحزن الحقيقي ليست في سقوط كابول وإنما في وجود “إمارة إسلامية” متوقع لها أن تأخذ التأييد من المجتمع الدولي، وقد وجدنا هروله الكثير من الدول إلى ذلك بحثًا عن مصالحها السياسية، حتى ولو كانت تصريحات زعمائها وقياداتها مختلفة بعض الشيء.
أفغانستان سوف تُصبح أول “إمارة إسلامية” مدعومة دوليًا، ولم تقف الأمم المتحدة أمام شرعية وجودها طالما تعاملت الدول الأعضاء ببراغماتيه مع قوة الحركة ومصالحها السياسية التي لا تريدها أن تتأثر بالحركة الصاعدة للحكم، وسوف تسعى هذه الحركة إلى دعم جماعات الإسلام السياسي في كل مكان من أجل أن يصلوا إلى السلطة في بلدانهم، بل سوف تحتضن هذه التنظيمات على أراضيها، وهنا سوف تتحول أفغانستان إلى ملاذ آمن لكل جماعات العنف والتطرف في جميع أنحاء العالم.
ما يقع فيه بعض الباحثين أو المراقبين وربما بعض السياسيين أنهم ظنوا أن نسخة “طالبان” 2021 تختلف عن النسخة القديمة لـ”طالبان” 2001 عندما كانت في السلطة، وهو ظنٌ في غير محله وقراءة غير دقيقة للحركة. صحيح أن الحركة اكتسبت بعض الخبرة واستفادت من تجربتها، ولكن هذا لم يغير الأفكار التي كانت ومازالت تؤمن بها، هي غيرت الأدوات وكانت أقل صدامًا حتى تستطيع السيطرة على كامل أفغانستان، ولكنها حتمًا لن تغير تصورها للمرأة وسوف تواجه خصومها بالدماء.
الأحكام الفقهية والشرعية للحركة تُدخلها في دائرة التطرف، خاصة وأننا نتحدث عن حركة احتضنت ومازالت تنظيم قاعدة الجهاد، ورفضت في السابق تسليم زعيمه أسامة بن لادن، كما ترفض تسليم الزعيم الحالي أيمن الظواهري، وهذا إن دل فإنما يدل شكل وطبيعة الحركة وتطرفها.
الصور الحزينة التي أرسلتها كابول بعد سقوطها كانت أكثر حزنًا؛ وقف المئات من الأفغان في مظار حامد كرازي الدولي ينتظرون طائرة تقلهم خارج البلاد، بينما كان العشرات يتسارعون أمام طائرة تستعد للإقلاع إلى الخارج، فتحت عجلاتها تجمع العشرات أملًا في أن يجدوا مكانًا داخل الطائرة وخارج أفغانستان.
وقف الشعب الأفغاني أمام البنوك يطلبون سحب أرصدتهم، فبعضهم خاف عليها بعد صعود “طالبان” للسلطة والبعض الآخر أراد أن يُهاجر بها إلى سماء لا تعيش الحركة تحتها ولا تفرض فيها قوانينها، الحزن أصاب كل من دقق في هذه الصور وفي تفاصيلها وفي دلالاتها، فالقارئ الجيد يُدرك أن أفغانستان تعود للوراء 1400 عام، أصحابها يبحثون عن الحياة التي عاشها المسلمون الأوائل ولا يبحثون عما كان يؤمن به هؤلاء، وفرق بين الحياة وقسوتها التي عاشها هؤلاء المسلمون وهي ليست مقدسة بالطبع وبين الرسالة التي كانوا يطبقونها، وهذه خطيئة تنظيمات العنف والتطرف التي لا تستطيع أن تفرق بين ظروف الحياة التي كان يعيش فيها البشر وبين ما كانوا يؤمنون به، فضلًا على أنهم يريدون استيراد المفاهيم الإسلامية “القديمة” ويطبقونها على الحياة “الحديثة” دون أن يدرك الحكمة الإلهية من أغلب التشريعات وتطويع تطبيقها بما يوائم الإنسان ولا يخالف المعتقد في نفس الوقت.
الحزن ليس في سقوط كابول ولا في المشاهد التي تبعت ذلك، ولكن في ما سوف يجنيه العالم الفترة القادمة جراء سيطرة “طالبان” على مقاليد الحكم وانعكاسات ذلك على تحقيق الأمن في ظل وجود تحدي الإرهاب والتطرف، الذي ضرب ويضرب هذا العالم من شرقه وغربه.
لابد من تشكيل حلف دولي لمواجهة الإرهاب “المعولم” عابر الحدود والقارات، يكون مختلفًا عن التحالف الدولي الذي تقوده أميركا، فهو تحالف عسكري، تحركه واشنطن وفق رغباتها وأهدافها السياسية ووفق أهداف لا علاقة لها بمواجهة الإرهاب، وأن يكون في القلب من الحلف الدولي، الحلف العربي، المعني بمواجهة جماعات العنف والتطرف. وفي مقدمة هذا الحلف مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ولابد أن تكون مهمة هذا الحلف، سياسية وفكرية ودبلوماسية، بحيث يضع الأخطار التي تتهدد العالم جراء الإرهاب “المخلق” في رسائل تصل العالم، وتكون معها ولديها آلية للضغط من أجل تجنيد هذا العالم في مواجهة عسكرية لهذه التنظيم. أعتقد لو حدث ذلك فسوف تتحول ليلة سقوط كابول الحزينة إلى أخرى يسترد فيها الأفغان بلدهم.