بقلم: حسن فحص – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- قبل أيام، وبعد انتخاب علي رضا زاكاني عمدة لمحافظة طهران، دخلت إلى إحدى غرف كلوب هاوس مستمعاً إلى نقاش تديره شخصيات إيرانية من الداخل والخارج، بينهم من سبق له أن شغل مواقع متقدمة في إدارة هذه المحافظة، وآخرون ممن شغل مناصب في إدارات الدولة أو كان قريباً من مصادر القرار ومشاركاً في صناعته.
كان الجدل والنقاش على مستوى عال من الحرفية والهدوء والعلمية، في ما يتعلق بحاجات محافظة طهران الإنمائية والتنظيمية والإدارية والخدماتية، والتركيز بأن القرار الأخير بتعيين زاكاني جاء مخالفاً لكل القوانين الناظمة لعمل الإدارات والأنظمة الداخلية والأعراف المتبعة وشروط اختيار منصب العمدة لأي مدينة صغيرة أو كبيرة في إيران.
لا شك في أن اختيار زاكاني لمنصب عمدة طهران العاصمة، جاء كجائزة ترضية بعد الدور الذي لعبه في الانتخابات الرئاسية لإضفاء طابع التعددية والتنافسية عليها، خصوصاً أنه رفض الانسحاب من السباق الانتخابي لصالح المرشح إبراهيم رئيسي الذي حصل على تأييد جامع من قوى وأحزاب التيار المحافظ الذي ينتمي له زاكاني.
واستطراداً، فإن زاكاني كان ممثلاً لمدينة قم التي تعتبر مركز الحوزة والسلطة الدينية في النظام الإيراني، وهو الذي أعلن في معركة الانتخابات البرلمانية عام 2018 أنه يخوض معركة إقصاء علي لاريجاني عن البرلمان الذي يعتبر الممثل التاريخي للمدينة في الندوة النيابية، مشكلاً مع النائبين الآخرين عن المدينة، وأحدهما ذو النوري الذي تولى رئاسة لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية، كتلة تعتبر من الأكثر تشدداً في مواجهة حكومة الرئيس حسن روحاني، خصوصاً في مواجهة الدور الذي لعبه وزير الخارجية محمد جواد ظريف في إدارة المفاوضات النووية والاتفاق الذي أنتجته عام 2015.
بالعودة إلى الحوار الذي استمعت إليه في غرفة الكلوب هاوس، استوقفتني مداخلة محمد تقي كروبي نجل الزعيم الإصلاحي ورئيس البرلمان الأسبق الشيخ مهدي كروبي، التي انتقد فيها قرار بلدية طهران عام 2006، بتقديم المساعدات والمشاركة في إعادة إعمار بعض المنشآت التي تدمرت جراء الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في حرب يوليو (تموز)، إلى جانب بناء بعض جسور المشاة في محيط الضاحية الجنوبية لبيروت. واعتبر أن هذا القرار وهذا العمل يخالفان أهداف ومصالح وأطر عمل البلدية التي من واجبها تركيز نشاطاتها واهتماماتها في معالجة احتياجات العاصمة والمحافظة وتأمين مصالح الساكنين والمواطنين فيها، لا أن تذهب إلى أعمال فيها طابع سياسي لا علاقة لها به.
كلام كروبي الابن، لا يمكن اعتباره عابراً أو يمثل شخصه، بل هو تعبير صادق عن مواقف شريحة كبيرة من الإيرانيين رفعوا شعار الإصلاح ومصالح إيران أولاً، وتبلور في الشعارات التي ظهرت لاحقاً في بعض الحركات الاعتراضية، خصوصاً على هامش الحركة الخضراء عام 2009 والأصوات التي طالبت النظام بالتخلي عن كل الدعم الذي يقدمه لجماعات موالية له في الإقليم، لا سيما في العراق ولبنان وفلسطين والاهتمام بالحاجات الداخلية “لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران”.
هذه الشعارات الشعبوية التي رفعتها هذه الجماعات، قد لا تنسجم مع الموقف الاستراتيجي لكل القوى السياسية الإيرانية سواء المحافظة أو الإصلاحية أو الليبرالية، لقدرتها في المستويات العليا على الفصل بين المصالح القومية الإيرانية والصراعات الداخلية حول السلطة. فهي وإن كانت على استعداد للذهاب إلى أقصى الحدود في تهشيم بعضها البعض الآخر وكيل الاتهامات والتسقيط الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والفساد في معاركها من أجل الاستيلاء على إدارات الدولة والسلطات الدستورية التنفيذية والتشريعية، إلا أنها في المقابل، لا تختلف في ما بينها على السياسات الخارجية والمصالح القومية والاستراتيجية سواء ما يتعلق بالحوار مع أميركا والغرب، أو في التعامل مع دول الإقليم، أو في توظيف القضية الفلسطينية لتعزيز مواقف النظام وإيران أمام الضغوط الخارجية وتحسين شروطها في المنطقة، مع الاحتفاظ بهامش دقيق في التمايز بينها في التعبير عن وحدة المواقف بلغة وأسلوب مختلفين ينسجمان مع أدبياتها السياسية والفكرية الإصلاحية والمحافظة والليبرالية.
من هنا، فإن المستويات العليا للقوى السياسية الإيرانية بكل تنوعاتها، كانت متفقة على أهمية الحرب التي شهدها لبنان عام 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، والدور الذي لعبته في إبعاد شبح الحرب عن الداخل الإيراني، خصوصاً أن تقديرات كل الأطراف الدولية والإقليمية كانت تترقب تعرض إيران لضربة عسكرية تستهدف بالحد الأدنى منشآتها النووية، لا سيما بعد فشل المفاوضات التي قادها علي لاريجاني الذي كان يشغل حينها منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي مع مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا في العاشر من يوليو (تموز) من تلك السنة. وأن الزيارة التي قام بها لاريجاني إلى سوريا في طريق عودته من جنيف إلى طهران عشية 12 يوليو، كانت مفصلية في تحويل التركيز الدولي والإقليمي عن طهران باتجاه جبهة الجنوب اللبناني والحرب التي نشبت بين “حزب الله” وإسرائيل.
يعني أن لبنان تحمل عبء الضربة التي كانت تهدد إيران ونظامها، بالتالي فإن الخسائر التي لحقت باللبنانيين سواء على المستوى البشري والتي بلغت أكثر من 1200 ضحية وآلاف الجرحى وأكثر من مليون مهجر، فضلاً عن خسائر المادية الشخصية وفي المباني والبنى التحتية تجاوزت 5 مليارات دولار أميركي، لا يمكن أن تعوضها مشاركة خجولة من بلدية طهران وبناء عدد من جسور لعبور المشاة. وحتى تلك المساعدات التي قدمها النظام لحليفه “حزب الله” والتي وصلت إلى مليارات الدولارات، استخدمها في برنامجه الخاص لإعادة الإعمار والتعويض، لا يمكن أن تقارن بالنتائج الاستراتيجية التي حصل عليها النظام. وأن الاستقرار النسبي الذي تعيشه طهران وإيران بعد 2006، بغض النظر عن الحصار الاقتصادي الذي تواجهه جراء صراعها مع الولايات المتحدة حول الملفات المتشعبة مثل النووي والصاروخي والنفوذ الإقليمي، مدين للدماء اللبنانية التي سقطت جراء الحرب والحروب بالنيابة، خاضها الحزب اللبناني منذ ذلك التاريخ وعلى أكثر من ساحة إقليمية مكنت النظام من تكريس موقعه على الخريطة الإقليمية ومعادلاتها كلاعب مؤثر سلباً وإيجاباً.
وخلال أيام حرب يوليو، وفي طهران، سألت أحد المسؤولين المقربين من وزارة الخارجية الإيرانية، هل تكفي أرواح 1200 ضحية لبنانية ودماء آلاف الجرحى وهذا الكم من الدمار للحفاظ على إيران بعيداً من الخطر، أم أن المطلوب المزيد؟ فمن المجحف وغير الأخلاقي على الأقل بحق من يعتبرون حلفاء لإيران ونظامها، أن تخرج شخصيات، مهما كان انتماؤها، وهي لا تقتصر على الإصلاحيين، بل أيضاً من بين المحافظين، لتعترض على ما تدفعه بلادها في لبنان وفلسطين وغيرها من أموال ومساعدات، متناسية الفواتير القاسية والباهظة التي تدفعها هذه الشعوب والبلدان على طريق تكريس الدور الإقليمي لإيران وإبعاد شبح الحرب عنها. أم إن التعامل مع هؤلاء الحلفاء يجري على قاعدة المثل القائل “مأكولاً مذموماً”، فهل من معتبر!