الرئيسية / مقالات رأي / عالم ما بعد 15 أغسطس ليس عالم ما قبله

عالم ما بعد 15 أغسطس ليس عالم ما قبله

بقلم: الحبيب الأسود – العرب اللندنية

الشرق اليوم– الجديد أن الولايات المتحدة، القوة الكبرى في العالم، ورائدة العالم الحر، وداعية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، جثت على ركبتيها ورفعت يديها واستسلمت لإرادة من كانت تصفهم بالمتمرّدين والإرهابيين، وتركت لهم الجمل بما حمل في أفغانستان.

والجديد أن الولايات المتحدة ساعدت سواء عن قصد أو عن دونه، تنظيما لا يعترف بالديمقراطية ولا بالتعددية على الانقلاب بقوة السلاح على نظام حاكم وصل رئيسه إلى السلطة عن طريق صندوق الانتخابات، وكان أكثر ما تستطيع القيام به هو تيسير فرار الرئيس المنتخب إلى الخارج لينجو بجلده من بطش المتمردين.

ما حدث في أفغانستان يوم 15 أغسطس، سيغيّر الكثير من ملامح العالم، وأول نتائجه الظرفية أنه سيفرض على الولايات المتحدة أن تفكّر جيدا قبل أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى، فليس من حقها بعد هذا اليوم، أن تتحدث عن رفضها لانقلاب عن الشرعية أو تغيير بقوة السلاح في أي بلد، ولا أن تنتقد أو تعاقب هذا النظام أو ذاك باسم الدفاع عن القيم الإنسانية وهي التي سلّمت بلدا بعاصمته وسلطاته لمتمردين كانت إلى وقت قريب تنعتهم بالإرهابيين، بل وكانت في حرب طويلة معهم استمرت لمدة 20 عاما.

ما حدث يوم 15 أغسطس 2021 كان زلزالا حقيقيا بكل المقاييس، فقد ضرب هيبة الولايات المتحدة كدولة تعتبر القوة العسكرية الأولى في العالم، وأثبت أنها آلة عمياء صمّاء قادرة على التدمير وعاجزة عن إعادة البناء أو توفير البدائل الحقيقية للدول والمجتمعات التي تستهدفها.

وضرب رمزية القيم التي طالما اتخذتها واشنطن غطاء لمشاريعها التوسعية وجعلت منها أداة لشيطنة خصومها في العالم، وأحيانا للضغط حتى على حلفائها، فطالبان التي سيطرت على أفغانستان لا تعترف بحقوق المرأة ولا حقوق الطفل، ولا بحرية التفكير والتعبير والضمير، ولا بالحق في التنظمّ، ولا بالانتخابات، ولا بحقوق الإنسان العامة، ولا بمدنية الدولة، وهي وفية لالتزاماتها بتطبيق الشريعة، تنفذ الحدود، وتعاقب الخارج عن ملتها، ولكن واشنطن ذهبت لتعقد معها صفقة في الظلام، وكأنها تعترف بالفشل والهزيمة وربما تعتذر في صمت عن حربها خلال العقدين الماضيين.

وضرب مصداقية واشنطن لدى من كانوا يعتقدون في مبدئية مواقفها وقراراتها ويغترّون بخطابها وشعاراتها ويثقون في وفائها لالتزاماتها، ليشاهد العالم تلك الصور المهينة لزحوف الفارين وهم يتسلقون مدارج الطائرات بحثا عن مهرب إلى الخارج، بعد أن كانوا يحسبون أن الأميركان لا يتخلون عن حلفائهم.

وضرب ثقة حلفاء واشنطن فيها ولاسيما في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا حيث تنتشر بؤر التطرف والإرهاب وتنشط الميليشيات والجماعات المسلحة للانقلاب على دولها والسيطرة على الحكم، وكما سلمت العراق للميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران، وليبيا لميليشيات القاعدة والإخوان، وأفغانستان لحركة طالبان، لا تبدو الولايات المتحدة بعيدة عن إمكانية الاعتراف بالحوثي وتسليمه اليمن، ولا عن عقد توافقات مع حزب الله في لبنان، وخصوصا في حال إبداء الاستعداد لحماية مصالحها والتخلي عن فكرة العداء لإسرائيل.

كما ضرب ثقة العالم في أن تكون للولايات المتحدة بقوتها العسكرية والمالية والعلمية وبأجهزتها المخابراتية وبمراكزها البحثية وبأكاديمياتها المتخصصة، رؤية استراتيجية لمشاريعها ومخططاتها أو قدرة على الاستشراف أو على فهم ما يدور في المناطق المظلمة، لذلك لم يعد بوسعها التقدم لتحديد استراتيجيات العالم ولا الزعم بأنها مؤتمنة على الأمن والسلام في هذه المنطقة أو تلك.

ما حدث يوم 15 أغسطس 2021 أكد كذلك أن الولايات المتحدة نجحت فعلا في توحيد الشعب الأفغاني بمختلف عرقياته وطوائفه ضدها، وضد النظام الذي حاولت تكريسه في كابول. فما كان لطالبان أن تتمدد بكل تلك القوة من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ومن البشتون إلى الطاجيك، ومن الهزارة إلى التركمان فالأوزبك، وأن تدخل المدن الكبرى دون الاضطرار إلى إطلاق رصاصة واحدة، وأن يستقبلها حتى من كانوا متحالفين ضدها بالأمس القريب بالترحاب، لولا فشل المشروع السياسي الذي سعت واشنطن لتقديمه نموذجا لبدائلها المقترحة لحكم الشعوب، والذي تبيّن أنه نموذج ينخره الفساد ويعتمد على نهب المال والعبث بمقدرات الدول. وأكد هذا المشروع أن الأميركي لا يمارس الفساد في بلاده وإنما يمارسه في مواطن أخرى يستعمل فيها العملاء المحليون غطاء للتلاعب لا فقط بثرواتها، وإنما وهذا الأهم، بالأموال الطائلة التي ترصدها إدارته وحلفاؤها بعنوان إعادة الإعمار والتأهيل وبناء المؤسسات الجديدة وترسيخ الديمقراطية ودعم المجتمع المدني وحرية المرأة وتنظيم الانتخابات وغيرها.

أثبتت الديمقراطية الغربية التي تتوهّم الولايات المتحدة بأنها قادرة على تعميمها في مناطق نفوذها، قصورها على إقناع المجتمعات المستكينة إلى ماضيها والمتمسكة بخصوصياتها، وفشلت الثقافة الأميركية في أن تكون بديلا عن قميص البشتوني وعمامته وعن اعتقاده بأنه صاحب الفضيلة ومالك الحقيقة والمدعوم من السماء، وفوق ذلك عن رفضه التهميش والاستهانة به، مقابل الاهتمام المبالغ فيه بفئة صغيرة تدور في فلك الغزاة الأجانب. وقد كان المشهد واضحا في تلك الفيديوهات المنقولة من داخل القصور التي دخلها مسلحو طالبان والتي ظهروا فيها كقادمين من كوكب القرون الوسطى.

قالت ميشيل فلورنوي أحد مهندسي زيادة قوات الرئيس الأسبق باراك أوباما في أفغانستان في عام 2010، إن “هناك من كان ينظر إلى الدستور الأفغاني الذي تم وضعه في بون وكان يحاول إنشاء ديمقراطية غربية. لقد أخطأ الحلفاء حقا منذ البداية. تم وضع المعايير بناء على مُثُلنا الديمقراطية، وليس على ما كان مستداما أو عمليا في السياق الأفغاني”. واعترفت بعد فوات الأوان بأن الخطأ تضاعف عبر الإدارات الجمهورية والديمقراطية والتي استمرت بحماس متساوٍ تقريبا لمتابعة أهداف تتعارض مع عقود، إن لم يكن قرون من التجربة الأفغانية.

بات واضحا أن ذلك المقاتل في صفوف طالبان، والذي يبدو أنه لا يحمل من سمات هذا الزمن غير بندقية الكلاشنيكوف والهاتف النقال، هزم غطرسة الولايات المتحدة بدفاعه عن هويته الثقافية كأفغاني، فيما انهارت معنويات العسكري الشاب الذي دربته القوات الأميركية وترك الميدان وفرّ بعيدا.

ربط كارتر ملكاسيان، وهو مستشار قديم للقادة الأميركيين في أفغانستان، ضعف القوات الأفغانية بافتقارها إلى قضية موحدة، فضلا عن اعتمادهم الشديد على الولايات المتحدة. وعلى النقيض من ذلك، كان أعضاء طالبان يقاتلون من أجل ثقافتهم، وقال في كتابه الجديد “الحرب الأميركية في أفغانستان” إن مقاتلي طالبان “جسّدوا شيئا ملهما، وهو الشيء الذي جعلهم أقوياء في المعركة، وشيء مرتبط ارتباطا وثيقا بما يعنيه أن تكون أفغانيا”.

اليوم وبعد 15 أغسطس، ستعلن طالبان عن تأسيس إمارة إسلامية ستكون مصدر إلهام للجماعات الدينية المتشددة، كما ستكون حضنا دافئا للإرهابيين الفارين من دولهم حيث سيجدون التمويل والتسليح والتدريب، وسيأتيها المنبهرون بانتصارها على الغطرسة الأميركية من كل دول العالم كما سبق أن فعلوا مع دويلة داعش. وسيعود بقوة أمل قيام دول إسلامية خارج العصر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى، كما ستعود نزعة التمرد لدى الأقليات في بقاع عدة، ولن تجرؤ واشنطن وحلفاؤها من جديد على محاولة اجتثاث المشروع الطالباني بعد أن تحول إلى نموذج ليس فقط معترفا به، وإنما بقوته وقدرته على دحر أعدائه.

لقد اعتادت الولايات المتحدة على أن تختصر الدول والمجتمعات في تلك النخب الموالية لها والتي عادة ما تتمثل في أحزاب ديمقراطية وليبرالية صغيرة أو منظمات للمجتمع المدني تعيش وتنشط بالدعم الأجنبي أو بعض الوجوه الأكاديمية والإعلامية والثقافية، ولكنها لم تكن تنظر إلى الأغلبية الساحقة من تلك الشعوب سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو الصومال أو غيرها.

بعد 15 أغسطس 2021 أدرك الجميع أن الواجهة التي تعتمد عليها واشنطن في تقييم دورها خارج حدودها هي واجهة كاذبة كواجهة ذلك المحل في كابول الذي كان يزدان بصورة نجمة إعلانات فاتنة، فطلاها المسلح الطالباني بطلاء أسود عوض أن يزيلها بيده ويرميها في سلة المهملات، معلنا بذلك إسدال الستار عن مشروع أميركي متهالك.


شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …