بقلم: بول كروجمان
الشرق اليوم- بالنسبة للكثيرين منا، أصبح تشاد باون، من “معهد بيترسون للاقتصاد الدولي” (وهو مركز أبحاث متخصص في الاقتصاد الدولي، كما يدل على ذلك اسمه)، أصبح الشخص الذي ينبغي اللجوء إليه من أجل فهم التطورات الحالية في السياسة التجارية. وقد كان عمله في رصد حرب دونالد ترامب التجارية مفيداً للغاية وبالغ القيمة.
والآن أنجز براون دراسة جديدة غنية بالمعلومات مع توماس بوليكي حول سلسلة توريد اللقاحات. والدراسة معقدة ومملة، غير أنها حافلة بالتفاصيل المفيدة، وتخبرنا ببعض الأشياء المثيرة للاهتمام حول طبيعة التجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
ومن الأشياء التي لفتت انتباهي، ربما ليس الشيء الأهم، لكنه أثير إلى قلبي، هو أن قصة إنتاج اللقاحات العالمية تُظهر الأهمية المستمرة لما يسمى”نظرية التجارة الجديدة”، أو “نظرية التجارة الجديدة القديمة”، كما بات يسميها البعض الآن.
وبالطبع، فإن إنتاج هذه اللقاحات عملية معقدة، وتشمل منشآت في العديد من المواقع، مما يعني شحن كثير من مكونات اللقاحات عبر الحدود. وفي حالة فايزر، بشكل خاص، توجد كل هذه المنشآت في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهو ما يُعتبر أمراً شائعاً عبر شركات الصيدلة، وإنْ كانت شركات أخرى تتوافر على بعض المنشآت في البرازيل والهند.
لكن ما علاقة سلسلة توريد اللقاحات بنظرية التجارة الدولية؟ إذا سبق لك أن سجلت في درس الاقتصاد في الجامعة، فلعلك تعلمت أشياء حول نظرية الميزة النسبية، التي تقول إن البلدان تتاجر في ما بينها للاستفادة من الاختلافات التي بينها. والمثال الأصلي الكلاسيكي، من عالم الاقتصاد ديفيد ريكاردو الذي عاش أوائل القرن 19، يتعلق بمبادلة الملابس الإنجليزية بالنبيذ البرتغالي. غير أنه في الستينيات والسبعينيات، بدأ عدد من علماء الاقتصاد يلفتون إلى أن الميزة النسبية قصة ناقصة وغير مكتملة. ذلك أن التجارة العالمية كانت تنمو مع مرور الوقت، لكن جزءاً كبيراً من ذاك النمو كان يتعلق بتجارة بين بلدان لم تكن تبدو مختلفة جداً، مثل الولايات المتحدة وكندا على سبيل المثال أو دول أوروبا الغربية. وعلاوة على ذلك، فإن ما كانت تبيعه تلك البلدان لبعضها البعض كان متشابهاً جداً.
فما الذي كان يجري؟ بعض علماء الاقتصاد لطالما لفتوا إلى أن الميزة النسبية ليست السبب الممكن الوحيد للتجارة الدولية. ذلك أن البلدان قد تتاجر في ما بينها أيضاً لأن إنتاج بعض السلع ينطوي على زيادة في العائدات، فهناك إيجابيات للإنتاج الكبير الذي يخلق حافزاً لتركيز الإنتاج في بضعة بلدان وتصدير تلك السلع إلى بلدان أخرى.
غير أنه إذا كانت التجارة تعكس زيادة العائدات بدلاً من خصائص البلد وميزاته، فما هي البلدان التي ستنتج أي سلع في نهاية المطاف؟ الواقع أن الأمر قد يكون عشوائياً إلى حد كبير، ونتيجة لحوادث التاريخ وصدفه.
لكن ما علاقة كل هذا بسلاسل توريد اللقاحات؟ حسناً، كما سبق لي أن أشرتُ إلى ذلك، فإن مكونات اللقاحات تُصنع بشكل رئيسي في البلدان المتقدمة، وهي بلدان متشابهة كثيراً في مستوياتها التعليمية، والمستوى العام للكفاءة التكنولوجية، وغير ذلك. لكن، لماذا لم يكن كل بلد متقدم ينتج كل المكوّنات التي تدخل ضمن صناعة اللقاحات؟
إليكم ما يقوله باون وبوليكي: “إن نموذج العمل الذي انتقل إليه معظم القطاع الصيدلي على مدى خمس وعشرين عاماً الماضية كان يتعلق بالتجزيء. فبالتوازي مع سقوط الرسوم الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية على الصعيد العالمي، تطوَّر قطاعُ الاتصال والمعلومات، وازدادت فعالية الشحن واللوجيستيك، وتحسّنت حقوق الملكية الفكرية بشكل مطرد. كما أن حقيقة كون التجارة يمكن أن تلعب دوراً أكبر في توزيع المنتجات الصيدلية على الصعيد العالمي كانت تعني أن الشركات تستطيع تشغيل عدد أقل من المصانع ولكن على نطاق أكبر”.
وهكذا كنا أمام “نظرية تجارة جديدة”! وبدون شك يبدو كما لو أنه كان هناك الكثير من الصدف التاريخية العشوائية التي حدّدت أدواراً وطنية في نسق التخصص. وعلى سبيل المثال، فإن أوروبا كانت في البداية تعتمد كثيراً على صادرات الدهون الأوروبية، لكنني أشك في أن هناك شيئاً بشأن الثقافة البريطانية يجعل البلد بارعاً في الدهون بشكل خاص. فالأمر يتعلق بواحد فقط من تلك الحوادث التي تلعب دوراً كبيراً في الجغرافيا الاقتصادية.
هل تنطوي هذه القصة على عبرة ما؟ الواقع أنه كانت هناك الكثير من ردود الفعل المنتقدة ضد العولمة على مدى العقد الماضي، والتي كانت مبرَّرة إلى حد ما. ذلك أن أنصار اتفاقيات التجارة الحرة كانوا يبالغون في تسويق فوائدها ويقللون من شأن الاضطرابات التي قد تتسبب فيها. غير أن مثال إنتاج اللقاحات يُبرز جانباً إيجابياً من العولمة نميل إلى نسيانه. فهذه اللقاحات التي تشبه المعجزة منتجات معقدة للغاية وكان سيكون من الصعب تطويرها وإنتاجها في أي بلد لوحده، حتى وإن كان بلداً كبيراً مثل الولايات المتحدة. وهكذا، أتاح سوق عالمي إمكانية توزيع كل المكونات المتخصصة التي تنقذ آلاف الأرواح حالياً، بينما تقرأ هذه السطور.
بالاتفاق مع صحيفة الاتحاد