الرئيسية / مقالات رأي / أمريكا والعالم الطالباني

أمريكا والعالم الطالباني

بقلم: محمد المحمود – موقع الحرة

الشرق اليوم– لا يمكن الحديث عن “حركة طالبان” في أفغانستان إلا بوصفها تَنويعًا على “عَالَمٍ طَالباني” ينتظمه تصوّرٌ كُلّي لِمَاهِيّة الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله. فطالبان قبل أن تكون حركة، هي فكرة/ أيديولوجيا، وستبقى الفكرة مُخَططا قابلا للتنفيذ في كل آن وفي كل مكان؛ حتى لو تلاشت الحركة بالكامل، ورفع آخرُ أفرادها الرايةَ البيضاء، بل حتى لو انقلب مُؤَدْلجوها ـ على أعقابِ تصوراتهم الدوغمائية ـ بِمُعْجزةٍ ما؛ ليكونوا تلاميذَ أوفياء للتراث الحداثي، والما بعد حداثي !

إذن، في الواقع؛ لم تكن الولايات المتحدة في حرب مع “حركة طالبان” طوال السنوات العشرين الماضية؛ بقدر ما كانت في حرب مع “العالم الطالباني” الذي يتخلل نسيج الوعي الكلي في العالم الإسلامي. ويبقى السؤال: هل كانت الولايات المتحدة تعي هذا الواقع/ واقع كونها في حرب مع “عالم طالباني” واسع النطاق جغرافيا وعريق تاريخيا، وليس مع حركة دينية متطرفة في مكان ما من هذا العالم ؟ 

للأسف، يبدو أن الولايات المتحدة لم تَعِ هذا تمام الوعي، لم تستوعب أبعاده وهي تأخذ على نفسها مهمة إعادة تأهيل أفغانستان لتخرج من كهوف عصورها الوسطى إلى عالم حديث مبني على التشارك والاعتراف المتبادل. فـ”العالم الطالباني” خارج أفغانستان كان يتمدد على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة؛ دون أن تبذل تجاه ما كانت تبذله في أفغانستان من محاولات جادة للتغيير.       

إن حركة طالبان هي “حالة الرفض السلفي” لكل تجليات العالم الحداثي. ثمة “إسلام تقليدي” أُشْعِلت فتائله في الخمسين سنة الماضية؛ ليكون ثقافة كل فرد في العالم الإسلامي، بوصفه “الإسلام الصحيح” الذي سيعيد تشكيل واقع والمسلمين، وسيبعث ـ فيما لو تَمَثّلوه أفضلَ تمثّل ـ مجدَ الإسلام/ الفردوس المفقود/ الزمن الجميل المتخيّل. وهذا “الإسلام التقليدي” الذي يقطع مع المعاصرة، بل ويقف إزاء كثير من مفرداتها الأساسية موقف التضاد والعناد، هو إسلام يُؤَشْكل واقع المسلمين ويُؤَزّمه؛ من حيث هو يدعي أنه “الحل الوحيد” لكل مشاكل المسلمين، هؤلاء المسلمين الذين أصبحت تتفاقم أزماتهم وتتعقد مشاكلهم مع أنفسهم ومع العالم؛ بالاطراد مع مستوى تغلغل المفاهيم التقليدية السلفية في تصورهم عن الإسلام.

لهذا، لا تعني عودة طالبان بعد عشرين سنة إلى الحكم مجرد عودة تيار سياسي إلى الواجهة من جديد، بل هي أكثر من ذلك بكثير، عودة طالبان هي عودة الأمل الأصولي الذي سَيَبْعث الحياةَ من جديد في سائر حركات التطرف الإسلامي، حتى تلك الحركات/ التيارات التي تُخالف طالبان في مضامين أيديولوجيتها، سترى في عودة طالبان بارقةَ أمل واعد؛ ما دام أنها لم تختلف معها في بنية الوعي الأصولي.  

كل هذا يعني أن ثمة حالة “طَلْبَنة” بِمَوْجَاتٍ مُخْتَلفةٍ في مستوى تَرَدّداتِها، سَتَعُمُّ العالمَ الإسلامي، وأن تراث ابن تيمية التقليدي (ولا أثر لِلفَرْق هنا بين ماتوريدية طالبان وسلفيه/ أثرية هذا الحنبلي) سيعاود الانتشار في كل مكان حسب الظروف. فإذا كان سينتشر بوحي الانتصار الطالباني في بعض الأماكن بحَدّ السّنان، فمن المتحقق أن سيدفع هذا الانتصارُ تَمدّدَّ الفكرة الطالبانية بِحَدّ اللّسان، إذْ ستُورِث هذه العودةُ مزيدا من الثقة بالمقولات الماضوية ذات الطابع التّزَمّتي والإقصائي التي يُشَكل التراث التيموي نبعها الأصيل الذي لا ينضب!

قد يرى بعضهم في العودة الطالبانية المظفرة! ومن ثَمَّ وضعها لهذه المقولات التزمتية والإقصائية موضع التطبيق فرصة لرؤية مستوى البشاعة الكامنة فيها، البشاعة التي لا تتجلى في مستوى التنظير إلا لقليل ممن لديه ملكة تخيّل مآلاتها. أقصد أنها فرصة لترى جماهيرُ السلفياتِ الأصولية الواقعَ الفعلي/ التطبيقي للفكر الذي يُؤيّدونه ولا يدركون ـ في الوقت نفسه ـ جحيمَ الواقع/ واقعه، إذ إن رؤية الأفكار السلفية الآتية من غياهب زمن مُنَمْذَجٍ بوصفه عصرا ذهبيا يُدَاعِب أحلامَ يقظةِ البائسين، يختلف جذريا عن رؤيتها واقعا معاشا مُفَرَّغا من كل عناصر الحياة المعاصرة؛ لتتحول ـ بعد هذا التفريغ ـ من “حياة” إلى “معاناة”. 

هذا على مستوى تثوير الأحلام/ الآمال، وما يترتّب عليها من تداعيات غير مباشرة. أما على مستوى الارتباطات المباشرة بالحالة الطالبانية، فلا شك أن احتمال عودة أفغانستان الطالبانية إلى حالتها الأولى: كونها حاضنة وحامية لحركات الإرهاب، هو أمر وارد، بل ومتوقع بدرجة عالية؛ تصل ـ أحيانا ـ لتوقعّ أن تتحول الأراضي الأفغانية إلى مزرعة للإرهاب، وحاضنة وحامية لفلول المطاردين بتهم الإرهاب. 

وعلى أي حال، تبقى الحقيقة أن طالبان لم تنتصر بالمعنى الحقيق للانتصار، إذ لم تنهزم الولايات المتحدة أمام طالبان. ما حدث هو أن حركةً متوارية عن الأنظار طوال فترة الوجود الأمريكي ظهرت على السطح بمجرد السماح لها بذلك. والحقيقة الصلبة هي بين هذا وذاك، الحقيقة كامنة في أن أفغانستان عادت لنموذج الوعي السائد فيها (والذي هو طالباني: ديني متزمت + قَبَلي)، بمجرد رفع اليد الأمريكية عنها. وبالطبع، لم يكن لأمريكا أن تبقى إلى الأبد، ولا أن تستمر في البذل والتضحية إلى ما لا نهاية. فعشرون عاما من الجهد المُضْنِي لتأسيس نواة مجتمع مدني متطوّر، وجيش حديث، كانت كافية لإرساء مشروع دولة حديثة تنتشل الواقع الأفغاني من قاع بؤسه؛ لولا أن الوعي الطالباني المتخلف كان هو السائد/ الحاكم، هو الأصل الراسخ، هو الصخرة التي تتحطم عليها كل جهود التحديث. 

مهما حاولتَ، لن تستطيع أن تصنع “شيئا” من “لا شيء”. لن تستطيع مساعدة من لا يُريد أن يُساعِد نفسه، لن يُجدي أن تضحي بالدماء والأموال لمجتمعات لا تبادر حتى لحماية هذه التضحية من أن تذهب هباء. هذا إذا كانت هذه المجتمعات تعي حقيقة أنك تُحاول انتشالها من واقع بؤسها المُزْمِن؛ ولكنها تتكاسل عن التفاعل معك، فكيف إذا كانت تعتقد أنك مهما قدّمت؛ إنما تتعمّد الإضرار بها، ونقلها من واقعها الذي تراه جميلا، إلى واقع معاكس؟ 

والمشكلة الأكبر أن غياب الرؤية في تحديد الدور الأمريكي لا يقتصر على طالبان أو على المجتمع الأفغاني فحسب، بل هو غياب نرى ملامحه في معظم المقاربات التي يتبرع بها أبناء العالم الإسلامي. فَحَقًّا، لا تعرف ماذا يريدون من أميركا؟ بعضهم يرى أنها أخطأت خطأ جسيما عندما أسقطت طالبان قبل عشرين عاما، وحاولت إقامة نظام حكم بديل، وكأن على أمريكا أن يضربها الإرهاب في أكثر مفاصلها حيوية، ثم تترك الدولة الراعية لهذا الإرهاب كيما تُنتج مزيدا من الإرهاب. وبعضهم الآخر يرى الأمر في الاتجاه المعاكس، أي يرى أن أمريكا ملزمة ـ ولا نعرف تحت أي بند يجري إلزامها ـ بأن تبذل المزيدَ من الرعاية للدولة الأفغانية إلى ما لا نهاية، أن تتحمل مسؤولية أفغانستان من الألف إلى الياء، أن تحمي وتؤمن وتنمي وتعلّم، بل وتغيّر السائدَ الأيديولوجي!  

ما أنا متأكد منه تماما، أن أميركا مهما عملت فلن تُرْضِي “العالم الطالباني” السائد ـ كثقافة/ كوعي ـ في معظم أرجاء العالم الإسلامي، والعالم الثالث على وجه العموم. ثمة توجّهات ضِدّية في معاينة الغرب، ومن ثم في التعامل معه؛ لن تفلح معها حسن النوايا؛ حتى لو تحوّلت هذه النوايا الحسنة إلى وقائع ملموسة على الأرض. بل إن هذه التوجهات الضدية لديها القدرة ـ خاصة في سياق جماهيريتها الغوغائية ـ لقلب كل فعل إيجابي صادر عن الغرب عامة، وعن أمريكا خاصة، إلى فعل سلبي، وطبعا لدى جماهير الغوغاء القابلية للتصديق وللتصفيق. 

أخيرا، لن تستطيع تغيير “العالم الطالباني”، وليس طالبان فحسب؛ ما لم تُغيّر ـ تغييرا جذريا ـ منظومةَ الأفكار التقليدية التي يقتات عليها هذا “العالم الطالباني” المنسوجة خيوطه في عقول ملايين المتأسلمين على امتداد العالم الإسلامي. لن يُجْدي أن تقتل “أسامة بن لادن” ولا “الملا عمر” ولا “الظواهري” ولا “أبو بكر البغدادي” و “الزرقاوي”…إلخ؛ ما لم تقتل التراثَ التقليدي/ الأصولي بقتل أهم رموزه الاعتبارية في التاريخ

شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …