الشرق اليوم- يتجه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى نهايته الحتمية، فقد بدأت حركة “طالبان” الإسلامية المتطرفة التي كانت الولايات المتحدة تحاربها تسترجع سيطرتها على البلد، مدينة تلو الأخرى، مما يعني أن الولايات المتحدة خسرت الحرب التي خاضتها في آخر عشرين سنة. يريد البعض متابعة القتال، لكن من المستبعد أن تُحقق الحملات التي تمتد على عشرين سنة أخرى النصر بما أن تعريف النجاح يبقى مبهماً وطموحاً جداً، إذ كان الهدف الأصلي يتعلق بتحويل مجتمع قديم ومعقد إلى ما يريده الأمريكيون، لكنّ هزم بلدٍ يشمل فصائل متناحرة وفرض السلام وثقافة جديدة يتجاوزان قدرات واشنطن.
هذه ليست أول حرب تخسرها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن لا بد من تفسير ما حصل نظراً إلى القوة العسكرية الطاغية التي يملكها الأمريكيون، فخلال الحرب العالمية الثانية التي واجهت فيها الولايات المتحدة صراعاً أطلقته اليابان وألمانيا، ردّ الأمريكيون عبر تعريف الحرب بعملية التخلص من جيش العدو وسحق مجتمعه من خلال تدمير منشآته الصناعية ومدنه، لأن النصر كان يتطلب هزم العدو وإحداث تغيير اجتماعي وأخلاقي في البلد المهزوم.
لقّنت الحرب العالمية الثانية الولايات المتحدة عدداً من الدروس:
أولاً، تبين أن أعداء واشنطن هم الذي يحددون توقيت التحرك، حيث دفع هجوم “بيرل هاربر” وإعلان الحرب من جانب هتلر بواشنطن إلى اتخاذ قراراتها في الوقت الذي يناسب الطرفَين الآخرين، ونتيجةً لذلك، لم يتسنَ لها أن تأخذ المبادرة بل اكتفت بخطوات سطحية.
ثانياً، أدركت واشنطن أنها مضطرة لاستعمال القوة المفرطة عند محاربة الأعداء ومن الضروري أن يتدمر جيش العدو وحتى أخلاقيات الأمة ككل، فكانت الولايات المتحدة تُحقق هذا الهدف عبر استعمال القوة المفرطة ضد جيوش الأعداء ومجتمعاتهم.
كان التطرف الإسلامي عبارة عن تَحَدٍّ أخلاقي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لكنه كان حليفاً مفيداً ضد السوفيات في مرحلة سابقة، وحين غزا السوفيات أفغانستان، دعمت الولايات المتحدة المقاومة وأشادت بها، وكانت تظن أن الأعداء السوفيات في أفغانستان يحملون على الأقل تعاطفاً معيناً مع الولايات المتحدة، وكان كل طرف يخدم مصالح الطرف الآخر وهكذا هُزِم السوفيات، ثم وقعت اعتداءات 11 سبتمبر التي شكّلت أعنف إعلان حرب ضد الولايات المتحدة، وخسرت واشنطن حينها سيطرتها على شن الحروب، كما حصل في فيتنام، واضطر الأمريكيون للتحرك، وعلى غرار أحداث فيتنام، انجرّت الولايات المتحدة إلى هذا المستنقع من دون علمها تقريباً، فكانت تحتاج إلى تدمير “القاعدة”، وبما أنها استهدفت التنظيم من دون تدميره، شعرت بأنها مضطرة لتكثيف التزاماتها، فاضطرت لخوض درجة من الحرب الهجومية إلى أن برزت الحاجة إلى إنشاء نظام جديد يتقاسم معها القيم الليبرالية الديمقراطية.
بعبارة أخرى، كان يجب تغيير مجتمع قديم آخر لكن من دون إحداث مستويات الدمار التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، وهكذا تصادم العالمان الاستراتيجي والأخلاقي، فمن الناحية الاستراتيجية، كانت أفغانستان شاسعة ولا يمكن السيطرة على أكثر من جزء بسيط منها بأي قوة عسكرية، ومن الناحية الأخلاقية، كان الأفغان يتكلون على نظامهم السياسي الخاص الذي لا يقدّر قيمة الديموقراطية الليبرالية أكثر مما يقدّر الماركسية.
برزت نقطة مشتركة بين الحربَين ضد الاتحاد السوفياتي وحركة “طالبان”، فقد شعرت الولايات المتحدة بالإهانة بسبب قيمهما الأخلاقية وصاغت استراتيجية وطنية على هذا الأساس، وفي مرحلة معينة، أصبحت الاستراتيجية الوطنية مبالغاً فيها حين تجاوزت الطموحات الأخلاقية حدود الاحتمالات الاستراتيجية، وسرعان ما وصلت الحرب إلى مرحلة الاستنزاف بسبب عدم الرغبة في الاعتراف بالفشل.
كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة تدريب أخلاقي، فهي التي أطلقت الحقبة الأمريكية في العالم، وأصبح البُعد الأخلاقي من تلك الحرب أساسياً في الحروب المستقبلية التي باتت أكثر شيوعاً بعدما تحولت الولايات المتحدة إلى قوة عالمية، وكان رصد البُعد الأخلاقي يسهل حينها، إذ لم يكن الوضع يتطلب استراتيجية واضحة لشن الحرب فحسب، بل تدبيراً محدداً في حال فشلت الحرب، وفوق كل شيء، يجب أن يجيد المعنيون تحديد الاستراتيجية الفاشلة وتجنب الأفخاخ عبر اللجوء إلى المعايير الأخلاقية في الأوقات الشائكة لتفادي القرارات الصعبة.
لقد اعتاد العالم على التدخل العسكري الأمريكي، وهو يدين هذا التدخل ثم يشعر بالراحة بسبب هذه الإدانات، لكنّ خسارة الحروب بعد سنوات من الصراع (أو متابعة حروب خاسرة لأسباب أخلاقية أو لإخفاء الواقع) مقاربة غير منطقية، ويجب أن تسيطر الولايات المتحدة على أماكن شن الحروب وطريقة خوضها، كما يشمل مفهومها للنصر التحوّل الأخلاقي لشعبٍ قديم لا يعتبر نفسه غير أخلاقي، ويمكن النجاح عند استعمال مبدأ أخلاقي في أرض معروفة واستخدام الأسلحة التي تناسب الصراع، لكن في المقابل تتراجع فاعلية المبدأ الأخلاقي في أي أرض غير مألوفة وعند استعمال أسلحة غير مناسبة.
بالاتفاق مع صحيفة الجريدة