بقلم: مصطفى الفقي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– كثيراً ما يجول بخاطري افتراض مؤداه أنه لو لم تكن جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا عام 1928، انطلاقاً من مدينة الإسماعيلية التي كانت تعج بنسبة من الأجانب، لو أن ذلك لم يحدث ترى كيف يكون حال العالم الإسلامي حالياً بأقطاره المختلفة؟! خصوصاً أن الخلافة كانت قد سقطت قبل ذلك بسنوات معدودة وفقاً لـ”اتفاقية سيفر” التي أنهت وجود رجل أوروبا المريض، وسمحت بتوزيع تركته في الشرق الأوسط والبلقان، وأنا ممن يعتقدون أنه لو لم تقم جماعة الإخوان المسلمين لكان وضع المسلمين أفضل بكثير مما هم عليه الآن، ذلك أن ظهور الجماعة قد أدى إلى انقسام المسلمين وظهور الأفكار التكفيرية التي أصبحت تردد بلا خجل أن “الوطن حفنة من تراب”، كما قال زعيم إخواني تونسي، أو “طُظ في مصر”، كما قال مرشد إخواني مصري، ذلك أن فكرة الوطن ليست واضحة على الإطلاق، ولا مستقرة في ذهن أصحاب الدعوة من قيادات الجماعة، وهم يظنون أن الولاء لها هو الأصل، وأن الأوطان بدعة حديثة لا يجب الاهتمام بها، أو التعويل عليها، وتلك خطيئة كبرى دسّتها الجماعة في ضمير الوطن، ولم تقف عند هذا الحد، ولكنها تجاوزته إلى حديث فج عن الأممية الإسلامية، متناسين أن الإسلام يرعى الأوطان، ويحترم الشعوب، فالذكر الحكيم يقول: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، كما أذكرهم أيضاً بأن نبي الإسلام عندما أخرجه كفار مكة قسراً من بلده الذي ولد وعاش على أرضه نظر إلى وطنه دامعاً، وقال مقولته الشهيرة: “والله إنك أحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت”، أليس ذلك برهاناً إسلامياً نبوياً على عزة الأوطان وتعلق الإنسان بها وحرصه عليها واحترامه لها؟! فأين ذلك من الطرح المغلوط الذي يردده الإخوان المسلمون خروجاً عن الفهم الصحيح للدين الحنيف؟! ولعلي أستأذن القارئ في طرح بعض الملاحظات المتصلة بحركة الإخوان المسلمين ونتائجها التدميرية على وحدة الأمة واستعدائها بلا وعي لأعداء الإسلام لكي يكونوا حرباً عليه، وللتشهير به ودمغه بالإرهاب واتهام أتباعه بالتطرف والتعصب ورفض الآخر، ومن هذه الملاحظات ما يلي:
أولاً: كان المسلمون يتمتعون بقدر كبير من التقدير المتبادل والفهم المشترك، ولم تكن هناك أسباب لغير ذلك، وأنا أذكر الجميع بكلمة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور في افتتاح المركز الإسلامي بواشنطن في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وكان مدير المركز حينذاك هو الشيخ عبدالرحمن بيصار، شيخ الأزهر، فيما بعد. لقد تحدث أيزنهاور يومها مثلما تحدث بعض سابقيه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية بكل الاحترام والتقدير للإسلام والمسلمين، بل إن أحد رؤساء الولايات المتحدة كان يحتفظ بنسخة إنجليزية لترجمة القرآن الكريم في مكتبه، ولكن الأمور تبدّلت بعد ذلك، والأحوال تغيرت، وأصبحت نظرة غيرنا لنا مشوبةً بالشك، مقترنةً بالريبة، إذ إن أصحابها يظنون بنا غير ما نحن عليه من خلال الدعايات المسمومة التي أفرزتها جماعة الإخوان المسلمين بفروعها وفصائلها ومنابرها في كل مكان، ومع ذلك فلا تزال هناك بعض الأصوات لشخصيات دولية كبيرة تدافع عن الإسلام والمسلمين، بينها الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا وصاحب الخطبة الشهيرة في جامعة أكسفورد مطلع تسعينيات القرن الماضي دفاعاً عن الإسلام وتبرئة له من الاتهامات الباطلة، ونتذكر أيضاً خطبته الثانية في رحاب الأزهر بالقاهرة مطلع هذا القرن التي ضمّنها تحية للإسلام وللأزهر باعتباره أكبر مركز سني للمسلمين في العالم. ثانياً: لا يخالجني شك في أن جماعة الإخوان المسلمين هي الأم الشرعية لكل التنظيمات الدينية المتصلة بـ الاسلام السياسي، إذ لم تتوقف التنظيمات العنقودية المتبادلة بين الجماعات المختلفة، بدءاً من أشدها تطرفاً، وصولاً إلى أكثرها اعتدالاً، ولا يعني ذلك أنني أحمّل الجماعة كل الأعمال الإرهابية أو الممارسات العنيفة التي يرتكبها دعاة الإسلام السياسي في كل مكان، بل إنني أعترف أن الجماعة قد دانت كثيراً من الأعمال الإرهابية، ولكنها لم تقبل تكفير الخوارج الذين حاولوا تلويث صورة الإسلام وتلطيخ سمعته ظلماً وافتراءً، ويكفي أن نتذكر في مصر أنه فور إنهاء حكم الجماعة خرجت العناصر المتطرفة في سيناء وغيرها تضرب استقرار الوطن وتهدد أمن الشعب استجابة لشعور خفي بأن الأم الكبرى، وهي الجماعة، قد تلقت ضربة عنيفة من الشارع المصري، فأصبح من حق أتباعها أن يثأروا لها، وأن يقاوموا من اعترض طريقها.
ثالثاً: استخدمت الجماعة الديمقراطية الغربية وسيلة لتحقيق غاياتها على الرغم من أنها لا تؤمن بتلك الديمقراطية، بل ولا تعترف بنتائجها عند اللزوم، وإنما تستخدمها كسلم تصعد عليه إلى السلطة، فإذا ما بلغتها ركلت السلم، فلا هي نزلت به، ولا سمحت لغيرها بالصعود! بل احتكرت الحكم لنفسها اغتصاباً وتعصباً وتطرفاً.
رابعاً: لا يؤمن الإخوان بأن الأمة هي مصدر السلطات، ولا يقبلون بتداول السلطة أو دوران النخبة، فكل شيء يعادي سياساتهم مرفوض أصلاً، لأنهم يظنون أن الدنيا لهم، ولهم وحدهم، في تعصب مقيت وطاعة عمياء، كما أنهم يطوعون أحكام الشريعة ونصوص الفقه بما يخدم أهدافهم على حساب الحقيقة، ودون نزاهة أو تجرد، ولقد تشجعت الجماعة بوصول الثورة الإيرانية إلى الحكم عام 1979 مع أن الفارق في نوعية الكوادر السياسية بين السنة والشيعة، فارق كبير، فالكوادر السنية فقيرة ومحدودة، أما الكوادر الشيعية فقد جرت تربيتها سياسياً، وتمكينها سلطوياً، بحيث أصبحت قادرة على السياسة والحكم، بغض النظر عن رأينا فيما يفعلون.
خامساً: إن الدرس التونسي الذي يجسد العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والدولة الوطنية في أقطارها المختلفة إنما هو برهان جديد على إخفاق الجماعة في التعامل مع غيرها وانعدام قدرتها على فهم طبيعة الشعوب ومشاعر الأمم، فلقد لقنهم التونسيون درساً يكاد يكون صورة جديدة من الدرس الذي لقنهم إياه الشعب المصري عام 2013، لقد استطاع التوانسة البواسل بقيادة رئيس خرج من صفوف الجماهير دون انتماء حزبي أو لون ديني، إنقاذ البلاد والعباد من سطوة الجماعة وقدرتها على تغيير الحقائق وتزييف الأمور حتى وإن حصلت على أغلبية برلمانية بمنطق ليّ الحقائق وتطويع النصوص.
إن جماعة الإخوان المسلمين ظاهرة متشعبة فرضت نفسها على العالمين العربي والإسلامي، وصدّرت مشاكلها إلى الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والدول الشرقية في آسيا وأفريقيا، ودمغت الإسلام ظلماً بالعنف، وجعلت المسلمين محل شك في كثير من دول العالم، فهم المنتظرون في المطارات، الواقفون في طوابير السفارات على الرغم من أن الإسلام دين الرحابة والسماحة والموضوعية، إنه الدين الذي جعل التفكير فريضة إسلامية فكيف لأتباعه أن يُمارسوا الأفعال الإرهابية، أو يشاركوا في الجرائم التي تؤدي إلى ترويع الناس وزرع الفتنة ونشر الفوضى؟
ولا يخالجني شك الآن في أن جماعة الإخوان المسلمين قد مارست تأثيراً سلبياً في وحدة الأمة ونهضة الشعوب، ولنتذكر كم الاغتيالات السياسية الذي مارسته في مصر وتونس وغيرهما على امتداد سنوات طويلة من بدايات الدعوة التي أسهمت فيها بريطانيا بأول دعم مالي من مكتبها في شركة قناة السويس تحيةً للشيخ حسن البنا ودعماً له، لذلك فإنني أعتبر الجماعة مسؤولة أيضاً عن الإخفاق الديمقراطي في المنطقة وهز الاستقرار وتقسيم المجتمعات دون مبرر، وتلك هي معضلة الإخوان في تقسيم الأوطان!