بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة
الشرق اليوم– بعد انتشار الحركات الجهاديّة التي تذيّل عناوينها باسم الإسلام وترفع شعارات التطرّف، حاول الكثير من المختصين في الفكر الإسلامي تقديم قراءات مخالفة لهذه الصورة التي تقدّم الإسلامَ على أنه دينٌ يشرعن العنفَ ويبيح انتهاك الحقوق والحريات. وتبنَّى بعض المفكرين الإسلاميين ومراكز دراسات وأبحاث غربية تقديم أطروحات مغايرة للإسلام تبرّز عناوينَ أخرى غير العناوين السياسية والمتطرّفة، ولعلَّ من أهم هذه المشاريع ما طرحته مؤسسة راند الأمريكية RAND Corporation في عام 2007، بعنوان (الإسلام المعتدل).
مشكلة هذه الطروحات والمشاريع أنها تأتي من قراءة سطحيّة وانتقائية وغير متعمّقة في المباني الأصولية للفكر الإسلامي، وغالباً ما تركّز على زاويا معيّنة ولا تعالج قضايا تأسيسية، لذلك لا يتعدّى تأثيرها غير التسويق الإعلامي، ولا نجد لها الكثير من التأثير في مشاريع الإصلاح الفكري والديني.
ومن ضمن الردود على تلك الطروحات والمشاريع، وفي قبال محاولة حركات الإسلام السياسي احتكار وفرض مفهومها للدين على المجتمعات الإسلامية، طرح المفكر الإيراني محسن كديور أطروحة (الإسلام الرَّحماني) ضمن مشروعه النقدي والإصلاحي للتفكير الديني.
يأتي مفهوم الإسلام الرحماني في مواجهة قراءات رائجة أخرى للإسلام مثل: الإسلام الرجعي والإسلام الثوري والإسلام الرسالي والإسلام الفقهي والإسلام العرفاني والإسلام السياسي والإسلام الحداثوي والإسلام الأصولي والإسلام العلماني والإسلام الليبرالي… ومن ثم لا يعبّر الإسلام الرحماني عن قراءة متجزئة للإسلام ولا يسعى إلى حذف أيّ شيء من التعاليم الإسلامية، فكلّ ما يجري في إطار الإسلام الرحماني يتمثَّل بأمرَين: أوّلاً: تصحيح بعض الأحكام والشعائر والطقوس التي قُرأَت وفُهمَت خارج إطارها وبعيداً عن ظروفها الزمانية والمكانية الخاصة بعصر النزول، وبالتالي ابتعدَت عن جوهرها الرحماني. ثانياً: يتم الاقرار ببعض الأحكام العقلائية التي لا تخالف التعاليم الإسلامية.
إن سبب تسمية هذه القراءة للإسلام بـ(الإسلام الرحماني) هو للتأكيد على تعاليم الرَّحمة في النصوص الدينية، ولفرز هذه القراءة وتمييزها عن قراءات أخرى للإسلام التي تقصي محور الرَّحمة تماماً، وتسعى إلى إقامة حكم دين الله باستعمال العنف والقسوة والشقاء.
ويقدّم الإسلام الرحماني قراءة للإسلام مكوّنة من عشرة محاور رئيسة: رضا الله، العدالة، العقلانية، الرَّحمة، الأخلاق، الكرامة وحقوق الإنسان، الحريّة والاختيار، العلم والتخصص (التكنوقراطية)، الديمقراطية والعلمانية العينية. مع الوقوف عند كلّ محور من هذه المحاور العشر تتضح معالم الإسلام الرحماني بنحو أدق، وبالتالي يسهل قبوله أو رفضه.
ولعلَّ من بين أهم الركائز في أطروحة (الإسلام الرحماني) لكديور التي يجب التوقف عندها، مفهوم العلمانية العينية. إذ بحسب قراءة (الإسلام الرّحماني) “لا يحقّ للحكومات والدول التدخل في المؤسسات الدينية كمرجعية التقليد، والحوزات العلمية والمساجد ومراكز التعليم والتبليغ الديني، والمؤسسات الخيرية الدينية. وفي مقابل ذلك يتصدى الإسلام الرحماني للدين الحكومي ويرفض بنحو قاطع زج كلّ من رجال الدين والمسجد ومدارس العلوم الدينية والمرجعية في إطار الدولة.”
ولا يرى الإسلام الرحماني في الإسلام شأناً خاصّاً، بل للإسلام تعاليم عدّة تعنى بالشأن العام. لذا إن خصخصة الإسلام في مجال محدد دون آخر، هو قَلب الإسلام وتحريف لغايته. وبخصخصته تنتفي النزعة الإسلامية في مقارعة الظلم الاجتماعي والسياسي. لا يرى الإسلام الرحماني إمكانية نزع الدين كليّا عن السياسية، ولا يعدّه أمراً مطلوباً. ولا يدعو الإسلام الرحماني إلى استقلال الدولة عن الدين أو استقلال السياسة عن الدين، بل يدعو إلى استقلال المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، أيْ فصل الدولة واستقلالها عن المؤسسة الدينية. بناءً على هذا “يحق للمتدينين –كالمسلمين- ومع الاحتفاظ بهويتهم الدينية أن ينشطوا في المجتمع المدني، وأن يبادروا إلى تأسيس الأحزاب السياسية، وأن يشكّلوا حكومة في حال حصولهم على أغلبية الأصوات. مثلما يحقّ كلّ ذلك لِمن لا يؤمن بالدين أن ينشط في كلّ هذه المجالات بكامل حريّته. بناءً على هذا على النظام السياسي أن يستوعب نشاط كلّ الفئات والجماعات، وأن يكون محايداً في تعامله مع الاعتقاد بالدين أو عدم الاعتقاد به.”
عرض كديور مصطلح (الإسلام الرحماني) في محاضرة له بتاريخ 24 تموز 2010 ألقاها في المركز الثقافي الإسلامي للجالية الإيرانية في مدينة أوكلاند في شمال كاليفورنيا. وتعود بداياته إلى آراءٍ ذكرها في صيف 2001. لكنّه أعاد مفرداتها ومحاورها في سلسلة محاضرات في بدايات 2021 في معرض نقده لأطروحات المفكر الإيراني عبد الكريم سروش، إذ عدّ طروحات الأخير النقدية للإسلام والسلطة تتماهى مع أبجديات الإسلام السياسي والتيارات الجهادية والدعوية. وقد عرّف هذه المحاضرات وقدّم قراءةً عنها حسن الصرّاف في مقال له نُشر في تموز الماضي ضمن كتاب شهري يصدر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث.
محسن كديور يعمل حالياً أستاذاً وباحثاً في جامعة ديوك (Duke University) في الولايات المتحدة الامريكية، ويعد معارضاً للنظام السياسي الإيراني ومن أهم منظّري التيار الإصلاحي في إيران، وتصدّى عبر كتاباته ومحاضراته لنقد المباني والأسس التي تستند عليها نظرية ولاية الفقيه في الحكم السياسي التي ضمّنها في كتبه (نظريات الحكم في الفقه الشيعي) و(الحكومة الولائية) و(هواجس الحكومة الدينية). يعتقد بأن أطروحة (الإسلام الرحماني) تقدّم أنموذجاً مغايراً لقراءة “الإسلام التي تهيمن في إيران، وتركت أضراراً كبيرة على الإسلام، فهي تحكم باسم الإسلام وضدّ الإسلام في آنٍ واحد. يأتي الإسلام الرحماني ليقدّم تمييزاً واضحاً عن القراءة الرسمية للإسلام في إيران.”
وكديور الذي اعتُقِل بزمن حكم الشاه البهلوي في نيسان 1979 من قبل عناصر السافاك (المخابرات الإيرانية)، وذاق في عادل آباد بشيراز تجربته الأولى في الحبس بتُهمة الإخلال في النظام العام والتآمر ضدّ الأمن القومي، قد اعتُقِلَ أيضاً في عام 1998 في نظام الجمهورية الإسلامية لمدّة سنة ونصف بتُهمة (التبليغ ضدّ النظام ونشر الأكاذيب بقصد تشويش الأذهان العامة)، لأنه انتقد أداء الثورة الإسلامية في عشية ذكراها العشرين. وفي 2011 صدر عن مركز دراسات الحكمة والفلسفة في إيران وعن وزارة العلوم في الجمهورية الإسلامية قرارٌ إداريّ يقضي بفصل كديور مِن موقع عمله، واقصاءه الدائم عن الوظيفة الحكومية بتهمة (نشر مقالات مسيئة ضد أركان نظام الجمهورية الإسلامية المقدّس، ومقام الوليّ الفقيه وشخص القائد المعظّم والتبليغ ضدّ النظام).
واليوم تواجه اطروحة كديور حول (الإسلام الرحماني) ردوداً كثيرة في الداخل الإيراني، إذ حتّى شخص المرشد الإيراني السيد الخامنئي وصف مصطلح (الإسلام الرحماني) بأنّه ضمن محاولات مضللة وباطلة، تهدف إلى ترويج الإسلام في ضوء اتجاهات ليبرالية. وقد صدرت عن مؤسسات حكومية رسمية في إيران ثلاثة كتب والعديد من المقالات في الرد على آراء كديور حول الإسلام الرحماني.