بقلم: محمد جميل أحمد – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- ما أعلنته وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، عن قرار مجلس الوزراء بالاتفاق على تسليم الجنرال المعزول عمر البشير إلى المحكمة الجنائية، ومساعديه، أحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين، بعد أيام من مصادقة السودان على قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي يقضي بتسليم البشير إلى لاهاي، يعد خطوة أساسية على طريق استحقاق العدالة للشعب السوداني على وجه العموم، ولأهل إقليم دارفور على وجه الخصوص. وبعد توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة السودانية والمحكمة الجنائية الدولية حول تسليم المطلوبين الثلاثة، أثناء زيارة مدعي المحكمة الجنائية الجديد، كريم أسد خان، الخرطوم، الأسبوع الماضي، وافتتاح مكتب دائم للمحكمة في العاصمة السودانية، سيكون من الضرورة بمكان القول إن الأمور في السودان بدأت تتضح جلياً لجهة القوة المتزايدة في القناعة بضرورة تسليم البشير ومساعديه المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، لا سيما أن المذكرة التي وقّعها مدعي المحكمة مع الحكومة تتعلق بالبشير وكل من أحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين (فيما كانت المدعية السابقة، فاتو بن سودا، قد وقّعت على مذكرة تتصل بالمطلوب الرابع الذي يحاكم الآن في لاهاي علي كوشيب).
محاولات العرقلة
بطبيعة الحال، كانت العقدة الأساسية تتمثل في موضوع تسليم البشير ومعاونيه، حيث يبدو واضحاً أن هناك (حتى داخل السلطة الانتقالية) من يحاول عرقلة أمر تسليم البشير ومعاونيه إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما صرح بذلك علناً حاكم دارفور الجديد مني مناوي قبل يومين، ما يعني أن الساحة السياسية في الخرطوم ستشهد في الأيام المقبلة لغطاً كبيراً حول ضرورة تسليم البشير ومعاونيه للمحكمة الجنائية الدولية من عدمه، في الأوساط الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. ونتصور أن هذا اللغط لن يخلو من توجيه خفي لنافذين في السلطة الانتقالية سيدفعون باتجاه خلق رأي عام شعبوي يحاول استدعاء مزيف للقيم الوطنية والكرامة السودانية، في أوساط البسطاء، وتحشد له القبائل والعصبيات، من أجل خلط أوراق كثيرة يكون هدفها التسويق لبروباغاندا تحاول تزييف الحقائق حول قضايا جرائم الحرب الخطيرة التي ارتكبها البشير ومعاونوه في دارفور، لكن في الوقت نفسه سيكون الهدف الأبعد من ذلك هو محاولة للإفلات من العقاب والتستر على جرائم لا تزال تحدث حتى الآن ضد المواطنين وظلت مستمرة خلال العامين الماضيين، عبر ما سمي عمليات شد الأطراف في كل من شرق السودان وغربه، حيث لا تزال اللجنة الأمنية في ولاية البحر الأحمر (مدينة بورتسودان) تمارس استهدافاً واضحاً عبر ممارسات صناعة الفتنة منذ يوم 5 يونيو (حزيران) 2019، والتستر وغض الطرف على عصابات موت تمارس قتلاً على الهوية ضد مكون واحد (بني عامر والحباب)، وإتاحة المجال العام لندوات تمارس خطاب كراهية وعنصرية ضد مواطنين سودانيين عبر كيانات سياسوية وقبلية.
صندوق باندورا السوداني
كما أن تسليم البشير ومعاونيه لمحكمة الجنايات الدولية، سيكون بمثابة فتح “صندوق باندورا” الذي قد تؤدي عبره اعترافات المتهمين أثناء المحاكمات (حال تسليمهم إلى لاهاي) إلى إطلاق مشروع اتهامات لمجرمين محتملين ربما يكون بعضهم لا يزال في مواقع القرار حتى اليوم. لكل ذلك، فإن ملف تسليم الجنرال البشير ومعاونيه إلى المحكمة الجنائية الدولية سيواجه عراقيل عدة قد تلعب دوراً في مزيد من الاحتقانات التي ربما نشهد تداعياتها في نشاط الثورة المضادة، وربما نشهد استعادة لتحالفات خفية أخرى لجزء من السلطة ممن له مصلحة في عدم تسليم البشير ومعاونيه إلى المحكمة الجنائية الدولية.
إن هذه البداية الجادة التي اتفق عليها مجلس الوزراء بتسليم البشير ومعاونيه إلى المحكمة الجنائية الدولية، تؤكد حرص حكومة الثورة السودانية على ضمان استحقاق العدالة، والتعبير عن الاكتراث الكبير للمؤسسات الدولية التي تعنى بقضايا العدالة، لا سيما وأن السودان يمر بمرحلة انتقالية حساسة.
ذلك أن ما تم خلال السنوات الثلاثين من جرائم حرب ارتكبها نظام البشير هو أمر لا يمكن للسودان أن يغض الطرف عنه أبداً، لأن حجم الكوارث التي اصابت البلاد من جراء تلك الجرائم كانت فادحة جداً، وأن جزءاً حيوياً من جدية الثورة اليوم يتصل بإنجاز ملفات العدالة الانتقالية التي لا بد منها.
وسيعكس وصول البشير وأحمد هارون، وعبدالرحيم محمد حسين إلى لاهاي، تداعيات من شأنها أن تلعب دوراً كبيراً في كشف ملفات سرية، فإذا ما بدا أن كلاً من البشير وأحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين ليس لديهم ما يخشونه على حياتهم، سوى السجن المؤبد، في لاهاي، فإن ذلك سيكون مغرياً بكشف أسرار كثيرة تتصل بكثير من المجرمين المحتملين في السودان، مما سيستدعي ملفات أخرى راهنة، وأحداث لا تزال فصولها تجري حتى اليوم من أجل إعاقة المرحلة الانتقالية ووأد المسار الديمقراطي الجديد في البلاد.