بقلم: رفيق خوري – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– تغيرت الأزمنة كثيراً، ودارت الدنيا حول أكثر من مدار قبل العودة إلى المدار الصحيح. زمن الإمبراطوريات رافقه زمن الدولة-الأمة، زمن “تقرير المصير” الذي رفعه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في مؤتمر فرساي، رافقه زمن تقاسم النفوذ على البلدان والشعوب وتفكيك إمبراطوريات بعد الحرب العالمية الأولى، وتوسع إمبراطوريات قادت الحرب العالمية الثانية إلى تقزيمها. تقسيم الشرق الأوسط بحسب اتفاق سايكس-بيكو بعد سقوط السلطنة العثمانية، رافقه مد قومي إلى جانب يقظة إسلامية. المد القومي أنتج تيارات وأحزاباً وجمعيات دعا بعضها إلى وحدة “الأمة السورية” وبعضها الآخر إلى وحدة “الأمة العربية”. واليقظة الإسلامية تمثلت بتأسيس حركة “الإخوان المسلمين” ثم حزب “الدعوة الإسلامية” ثم منظمات بأسماء عدة من أجل هدف واحد هو “إعادة الخلافة الإسلامية”. وعلى الجانب الآخر من اليقظة الإسلامية، برز حزب “الدعوة” في العراق، ووصل الإمام الخميني إلى السلطة في إيران للعمل على قيام “الولاية” حسب نظرية “ولاية الفقيه” الشيعية. وقبل ذلك كان انفصال الباكستان عن الهند لإقامة دولة مسلمين، انشقت في ما بعد إلى دولتين: باكستان وبنغلاديش.
والواقع أن الأحزاب القومية فشلت في إنجاز وحدة قومية واصطدمت بواقع أقوى من “أمم متخيلة”. والأحزاب الماركسية فشلت في مشروع الأممية وكان الحدث الصادم الكبير سقوط الاتحاد السوفياتي. وأحزاب الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم فشلت في تقديم ما وعدت به، والتي لم تصل إلى السلطة اتجهت لممارسة الإرهاب، وبقيت تمارسه حتى بعدما أقام “داعش” ما سماه “دولة الخلافة” في أجزاء من العراق وسوريا قبل هزيمته جغرافياً. والبديل الظاهر هو الدولة الوطنية التي كثر التسليم بها في القرن الحادي والعشرين، بعدما كانت القومية والأممية الماركسية والإسلامية موضة القرن العشرين.
والدعوات إلى الدولة الوطنية تأتي من ثلاثة اتجاهات، أول في بلدان حققت وحدة دولة فوق وطنية. وثان في بلدان فشلت في تحقيق وحدة قومية. وثالث في بلدان شيوعية. ففي كتاب عنوانه “صعود الأمة البريطانية وهبوطها: تاريخ القرن العشرين” يقول المؤلف ديفيد أدجرتون، وهو أستاذ التاريخ في كلية الملك في لندن، “شيء جيد أن تصل المملكة المتحدة إلى النهاية. أمة بريطانية هي فانتازيا قصيرة العمر. وإنجلترا ستصبح في وضع أفضل بعد استقلال ويلز وإيرلندا واسكتلندا”. وفي البلدان العربية، من العراق إلى لبنان وسوريا ومصر ودول المغرب العربي وسواها، فإن الدعوات ترتفع إلى تقوية الدولة الوطنية كنموذج وحيد ملائم للواقع والعصر، وقادر على التطور إلى دولة مواطنة عمادها الإنسان المواطن. وليس نجاح تجربة مجلس التعاون الخليجي سوى نتيجة لحرص الأعضاء على التعاون مع الحفاظ على طابع الدول الوطنية. وفي الصين، فإن الزعيم شي جينبينغ يراهن على قوة الوطنية الصينية في دولة وطنية قوية اقتصادياً وعسكرياً. وترى رنا ميتر في كتاب تحت عنوان “حرب الصين الجديدة: كيف شكلت الحرب العالمية الثانية وطنية جديدة”، أن الصين اليوم “دولة ما بعد الاشتراكية بالفعل إن لم تكن بالاسم. وشي ينسب إلى الحزب الشيوعي دور مقاومة الفاشية والاحتلال الياباني وصنع النظام العالمي الجديد والأمم المتحدة، وهو الدور الذي لعبه تشيانغ كاي شك في القتال على الأرض، وفي مؤتمر القاهرة مع روزفلت وتشرشل، حيث جرى التحضير لنظام ما بعد الحرب”.
لكن التحديات أمام الدولة الوطنية ليست قليلة ولا بسيطة. فالمهمة الأولى هي تجاوز الطائفية والمذهبية والإتنية المتجذرة في المجتمعات. والمهمة الثانية هي الانتقال من تعدد الهويات داخل الوطن وحتى داخل الفرد إلى تبلور هوية وطنية فوق الهويات. والمهمة الثالثة هي الحاجة إلى صيغة ديمقراطية في دولة مدنية، كما إلى التعاون الاقتصادي مع المحيط والعالم. ولم يكن ريتشارد هيلمز المدير سابقاً لوكالة الاستخبارات المركزية، السفير الأميركي سابقاً في طهران يبالغ حين قال لمساعديه، “انسوا ما تعلمتموه عن السياسات في الشرق الأوسط، وانتبهوا إلى أمور عمرها قرون هي المذاهب والأعراق والعشائر والقبائل”. ألم نشهد ما لعبته تلك العوامل داخل الأحزاب القومية والأممية؟