بقلم: أموري غيثين وآخرون
الشرق اليوم- نظراً إلى توسّع مظاهر اللامساواة الاقتصادية في أجزاء كثيرة من العالم منذ الثمانينيات، كان منطقياً أن تزيد المطالب السياسية بإعادة توزيع الثروات وتجديد السياسة الطبقية، لكن لم يحصل ذلك على أرض الواقع، أو لم يحدث بطريقة مباشرة على الأقل.
لفهم المشهد العام، حللنا تطور الانقسامات السياسية الطويلة الأمد في خمسين دولة ديمقراطية غربية وغير غربية استناداً إلى قاعدة بيانات جديدة حول تصويت يغطي أكثر من 300 استحقاق انتخابي بين العامين 1948 و2020.
توصّل هذا التحليل إلى نتائج عدة، أبرزها الانتقال من “الأنظمة الحزبية الطبقية” إلى “الأنظمة الحزبية المتعددة النُخَب” في الديموقراطيات الغربية، وخلال الخمسينيات والستينيات، كان التصويت لمصلحة الأحزاب اليسارية في الديموقراطيات الغربية “طبقياً”، مما يعني أنه يرتبط بالناخبين الأقل مستوى من حيث التعليم والدخل، ومنذ ذلك الحين بات هذا التصويت يتعلق بالناخبين الأكثر تعلّماً، ونتيجةً لذلك تغيّر تأثير معايير الدخل والتعليم على طريقة تصويت الناس خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولا يزال أصحاب المداخيل المرتفعة يصوّتون لمعسكر اليمين، في حين انتقل الأكثر تعلّماً (مثل حاملي الشهادات الجامعية) إلى دعم اليسار، وأصبح هذا التصنيف واضحاً في جميع الديمقراطيات الغربية تقريباً رغم اختلافاتها التاريخية والسياسية والمؤسسية.
لقد اتّضحت عواقب هذا التحوّل العميق اليوم، بغض النظر عن أسبابه، وبما أن الأنظمة السياسية باتت تُمثّل نوعَين من النُخَب (المتعلمون والأثرياء)، تراجعت المساحة المخصصة للتعبير عن مصالح المواطنين الأكثر حرماناً، وتوسّعت النزعة إلى الامتناع عن التصويت في بريطانيا وفي معظم الديمقراطيات الغربية بدرجة غير مسبوقة وسط المواطنين الأقل دخلاً وتعليماً خلال العقود الأخيرة، وفي كتاب لافت عن هذا الموضوع، يثبت جيفري إيفانز وجيمس تيلي أن هذا “الإقصاء السياسي للطبقة العاملة البريطانية” كان ينجم عن نزعة الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام المؤثرة إلى تسليط الضوء على مسائل اللامساواة، فالطبقية لم تَمُت إذاً كما أعلن ثلاثة علماء سياسيين منذ 15 سنة، بل إنها دُفِنت وهي حيّة.
لكن تتابع مسألة سياسية خلافية واحدة على الأقل تقسيم الناخبين لأسباب طبقية في جزءٍ واحد من العالم: أوروبا، ويكشف تحليلنا أن أصحاب المداخيل المنخفضة والناخبين الأكثر تعلّماً أجمعوا على معارضة التكامل العابر للأوطان في جميع الاستفتاءات التي نظّمها الاتحاد الأوروبي منذ السبعينيات، وهذه النتيجة ليست مفاجئة من ناحية معينة، ففي اتحادٍ يُركّز بشكلٍ شبه حصري على تحرير تدفق البشر والرساميل وفرض قواعد مالية صارمة، لا يستطيع العمال الذين يتحملون أكبر الأعباء الناجمة عن الرأسمالية العالمية غير المنظّمة في القرن الحادي والعشرين أن يحققوا مكاسب كبرى. شكّلت خطة “بريكست” ذروة هذه العملية المطوّلة، وفي عام 2016، صوّت 35% من أفقر الناخبين البريطانيين فقط لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي مقارنةً بثلثَي الناخبين المنتمين إلى أكثر الطبقات ثراءً، وللمرة الأولى منذ عقود، استطاع جزء كبير من المواطنين الذين تعرّضوا للتهميش السياسي والاجتماعي التعبير عن مخاوفهم، بما في ذلك المجموعات التي تحمّلت أعباء تدابير التقشف بعد أزمة عام 2008.
في عصر العولمة اليوم يخشى الكثيرون أن يكون انعدام الأمان الاقتصادي والقلق الثقافي مسؤولَين عن ترسيخ النزعة “الشعبوية” في أنظمتنا السياسية بطريقة لا رجعة فيها، وتكشف نتائج تحليلنا أن أساس هذه الفكرة يتعلق جزئياً بظهور شكلٍ جديد من سيطرة النُخَب على مر عقود عدة، ولمعالجة الأزمات السياسية التي تواجهها الديموقراطيات الغربية، يجب أن يسترجع المواطنون الذين يشعرون بأن المؤسسات الديموقراطية القائمة لا تُمثّلهم حقّهم بالتعبير عن رأيهم، ولتحقيق هذا الهدف تقضي الخطوة الأولى تصميم منصات جديرة بالثقة وطموحة بما يكفي لإقناع هذه الفئة من الناس بأن العولمة والتغيرات التقنية لا تكتفي بتحقيق مصالح أقلية ضيقة.
بالاتفاق مع صحيفة الجريدة