بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- وفّر حادث الاعتداء الذي تعرّضت له في بحر عُمان ناقلة النفط “ميرسر ستريت” في 29 تموز (يوليو) الماضي، الفرصة النادرة لإسرائيل لتعويم نفسها دولياً كضحية تتعرض مصالحها المدنية للإرهاب. الناقلة يملكها إسرائيلي، وتأتي المناسبة لتساعد إسرائيل على تجاوز تدهور سمعتها في العالم في أعقاب ما أحدثه حراك القدس حول حيّ الشيخ جراح، وما استتبع ذلك من حرب مع قطاع غزة في أيار (مايو) الماضي.
نجحت إسرائيل في تدويل “مصابها” حين أدى الاعتداء على السفينة إلى مقتل شخصين: هما حارس أمن بريطاني وقبطان السفينة الروماني الجنسية. وبدا واضحاً أن الحادثة أثارت غضباً فورياً في واشنطن ولندن اللتين سارعتا من دون تريث، بعد ساعات فقط من الحادث، إلى التضامن مع الرواية الإسرائيلية واتهام إيران بالوقوف وراء الاعتداء والتوعد بـ “ردّ جماعي منسّق”. وفي تأكيد وزيري خارجية بريطانيا وأمريكا موقفاً مديناً لإيران ما يشي بانقلاب المزاج الذي تأسست عليه الجولات الست لمفاوضات فيينا.
اتهمت تحقيقات الجيش الأمريكي إيران بتنفيذ العملية باستخدام مسيّرات انتحارية. أصدرت مجموعة الدول السبع بياناً لافتاً حمّل فيه وزراء الخارجية في دول المجموعة طهران مسؤولية الهجوم على ناقلة النفط، معتبرين أن “كل الأدلة المتوافرة تشير بوضوح إلى إيران”. ذهب البيان إلى استنتاج أن “سلوك ايران يهدد السلام والأمن الدوليين”.
وسواء في طرح القضية على مجلس الأمن الدولي، أم في البيان الذي صدر عن الدول السبع الكبار، أم في اللبس الذي صاحب غموض مصير سفن تجارية في بحر عمان في الثالث من الشهر الجاري، فإن إيران وجدت نفسها في مواجهة جبهة دولية تكبر وتتوسّع، وتتجاوز حساباتها المحدودة المحصورة في تبادل “اللكمات” مع إسرائيل.
جاء إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل، سواء تلك التي أعلن “حزب الله” إطلاقها أو تلك التي قيل إن فصائل فلسطينية تقف وراءها، في سياق محاولة طهران استعادة الطابع الإسرائيلي في رسائلها داخل مياه الخليج. في المقابل حافظت إسرائيل على مستوى هادئ لا يفقدها الثمار الدولية التي جنتها في الآونة الأخيرة.
والواضح أن طهران أطلقت لحزبها اللبناني الوفيّ العنان ليبعث برسائل فلسطينية ثم لبنانية تذكّر إسرائيل ومن ورائها الحلفاء، لا سيما أمريكا وبريطانيا، بما تملكه طهران من احتمالات على الحدود الشمالية لإسرائيل. ودعّمت تلك الرسائل من دون تأخر بأخرى من حدود إسرائيل الجنوبية عبر تصريحات متوعدة أطلقتها حركة “حماس” من قطاع غزة.
الحدث إيراني بامتياز. قبل رسائل لبنان وغزة نقل إعلام العالم أخباراً عاجلة تحبس الأنفاس، تحدثت عن خروج بضع سفن في خليج عمان عن السيطرة، وعن صعود عناصر مسلّحة، يعتقد أنها إيرانية، الى إحدى هذه السفن (أسفلت برينسس)، قبل أن يهرب المسلحون بعد اقتراب البحرية الأمريكية والعمانية استجابة لاستغاثة السفينة المنكوبة. وأياً كانت دقّة الروايات فإن إيران منتعشة بأنها طرف “مالئ الدنيا وشاغل الناس”.
وفيما تنشغل العواصم بإعداد الردّ الذي وعدت واشنطن بأنه قادم، وفيما يتسلم رئيس الجمهورية “المتشدد” إبراهيم رئيسي منصبه الجديد في إيران، فإن طهران تسعى من خلال “الحوادث” اللبنانية الى استعادة شيء من زمام الأمور الذي بدا أنها تفقده لمصلحة تقاطع إسرائيلي أوروبي أمريكي ظرفي نادر.
والحال أن إيران نجحت في إحداث جلبة تنذر بانفجار شامل من دون أن تتورط، رسمياً، وبشكل مباشر، في تفاصيلها. تولى حزبها في لبنان وفلسطينيوها في لبنان وغزة الإعراب عن تلك الجلبة التي حرص الطرف الإسرائيلي على قطع صداها ووقف شططها. وبدا جلياً أن كل أطراف الصراع يشتغلون ويتبارون تحت سقف مفاوضات فيينا، ويجمعون على عدم خرق قواعدها أو تهديد استمرارها. فليس صحيحاً أن “حزب الله” يريد حرباً وليس صحيحاً أن حكومة نفتالي بينيت تخطط لها.
أفرجت الاحتجاجات الأخيرة في إيران عن مشهد يفضح سوء الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. ومن يتأمل وعود رئيسي الرئاسية يسهل عليه استنتاج حاجة البلد لمنافذ اقتصادية عاجلة. فإيران التي باتت قيادتها واحدة، من المرشد مروراً برئيس الجمهورية وحكومته انتهاء بـ”الحرس الثوري” وأخواته، تحتاج إلى إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة يعيد إنعاش اتفاق فيينا حول البرنامج النووي، فتُرفع العقوبات ويعود ضخّ المال الدولي في أوردة الاقتصاد الإيراني. وما تغير هو أن طهران تودّ العبور من جديد نحو العاصمة النمسوية متسلّحة بكل الأوراق التي تملكها. تلك الساخنة المعروفة في لبنان والعراق وسوريا واليمن. وتلك الساكنة النائمة التي يتم إيقاظها في مياه الخليج، بما يهدد الملاحة الدولية للشرق والغرب.
غير أن معابر فيينا ليست معبّدة على النحو الذي كانت طهران تعوّل عليه حين ولج جو بايدن أبواب البيت الأبيض. لا تريد واشنطن العودة إلى الاتفاق نفسه الذي خرج منه دونالد ترامب، وهي، وفق ما كشفه المرشد الإيراني علي خامنئي، تشترط التفاوض حول برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار. وإذا ما ذهبت طهران إلى استبعاد الواجهات المعتدلة عن مشهد الحكم في إيران، فذلك أنها تريد أن تؤكد من جديد أنها نظام عدواني وجب القبول به والاتفاق معه وفق طبيعته هذه.
قد يعتبر البعض أن اتهام إيران بأنها دولة مزعزعة للاستقرار هو بالنسبة الى طهران عيب وخطيئة. غير أن إيران، ومنذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، ما انفكت تنتهج زعزعة الاستقرار عقيدة للدفاع عن “الثورة”. وهي في مناوراتها الحالية، سواء بالنسخة التي قدمتها في خليج عمان أم بتلك التي تمتعت بعرضها على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، تروم تأكيد الطبيعة المزعزعة للاستقرار بصفتها أصلاً بنيوياً دائماً وجب القبول به كمسّلمة لا سبيل لمقاربتها إلا عبر الاتفاق المأمول في فيينا
على أن إيران ما زالت تستثمر في سلوك لم يخسّرها كثيراً خلال العقود الأخيرة. غير أن الزمن قد تغير وربما تقادمت الأدوات القديمة وباتت بالية وإن ما زالت تحدث جلبة وضجيجاً. طهران تواجه مناطقها ومدنها المتبرّمة، وتفقد شيئاً فشيئاً عواصمها العربية الأربع، ويضيّع حزبها في لبنان عصمته، وتتلاشى هيبته وينهار وقاره، ويقف الأهالي جهاراً ضد إثمه في تدمير بيروت وضد مغامراته الصاروخية في بلدات جنوب لبنان
لا شيء جديداً ومفاجئاً في سلوك إيران الذي لم يصدمه رادع يذكر منذ أكثر من 4 عقود. ولا شيء جديداً حتى الآن يوحي بأن “الرد المنسّق” الموعود سيتحدث لغة جديدة مختلفة لا يعرفها المرشد والرئيس المنتخب حديثاً.