بقلم: مختار الدبابي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– بعد يوم الأحد الذي نجحت فيه تونس بتطعيم أكثر من نصف مليون جرعة لقاح ضد كورونا لمن أعمارهم فوق الأربعين، تعود الأحد القادم لتطعيم من عمرهم بين الثلاثين والأربعين، وفق استراتيجية ثابتة لأجل تلقيح أكثر من نصف التونسيين قبل العودة المدرسية والجامعية.
ومن شأن نجاح هذه الاستراتيجية أن يعطي مشروعية للمرحلة الجديدة التي يقودها الرئيس قيس سعيّد منذ الخامس والعشرين من يوليو. وهي مشروعية من نوع خاص كونها تستمد قوتها من الشارع التونسي الذي ظل لأشهر طويلة ينتظر توفر اللقاحات، لكن لم يحدث شيء بسبب الصراعات التي كانت تسيطر على المرحلة الماضية وعكستها بشكل جلي أزمة البرلمان.
هناك خلافات قانونية وسياسية حول توصيف ما جرى من تأويل للفصل ثمانين الذي استند عليه الرئيس سعيّد لتجميد البرلمان وحل الحكومة والإمساك بصلاحيات أوسع لإدارة البلاد، لكن هناك في المقابل تفاعل شعبي أوسع مع ما قام به سعيّد سواء أكان تصحيح مسار أو انقلابا.
التونسيون، الذين منعوا منذ عشر سنوات كاملة من مشاهدة منجزات حقيقية على الأرض تمس حياتهم وحياة أبنائهم، وجدوا في توفير اللقاح بكميات كافية وفي ظرف وجيز والوصول بها إلى أعداد كبيرة من الناس مؤشرا جديا على التغيير في حياتهم. لأول مرة يأتي قرار سياسي في صالحهم بشكل مباشر.
الطبقة السياسية الماضية لم تكن تهتم بمشاغل الناس الاجتماعية والمعيشية والصحية. كان همها الوحيد هو الصراع لأجل مطالب سياسية خاصة بفئة محدودة يتم الحصول عليها وفق نظام المحاصصة والتوافقات في الغرف المظلمة كما يصفها قيس سعيد.
لا قرار يمكن لأي مواطن تونسي أن يتذكره يصب في تحسين أوضاع الناس. وعلى العكس من ذلك، كل شيء كان يسير إلى الوراء، من مضاربات وتضخم وارتفاع في الأسعار وسير حثيث نحو تقليص الدعم عن المواد الأساسية.
لم يكن الحكام السابقون ضمن توليفة التوافقات الانتهازية يرون في مطالب الناس واحتجاجاتهم واعتصاماتهم سوى أنها واجهة نقابية وسياسية تهدد استقرار حكوماتهم، ولهذا لم يتوان راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في وصف احتجاجات الخامس والعشرين من يوليو بأنها شغل عصابات، ولم ينظر إلى الوجه الآخر الذي يجد مشروعية لها بسبب غياب أي مشاريع اجتماعية ذات قيمة لفائدة الناس، وخاصة الفئات الشبابية.
وقال بيان لحركة النهضة إن “هذه العصابات الإجرامية التي يتم توظيفها من خارج حدود البلاد ومن داخلها للاعتداء على مقرات الحركة ومناضليها وإشاعة مظاهر الفوضى والتخريب خدمة لأجندات الإطاحة بالمسار الديمقراطي وتعبيد الطريق أمام عودة القهر والاستبداد، وما الحملة الإعلامية المسعورة لبعض المواقع الإعلامية الأجنبية والمحلية المحرضة على العنف إلا دليل قاطع على ذلك”.
وبقطع النظر عما حف بتحركات الخامس والعشرين من يوليو، فإن الثابت أن الناس ملت من الثورة بالصورة التي حكم فيها الإسلاميون من خلال تحالفات مختلفة. كان همّ الإسلاميين الحفاظ على بقائهم في السلطة ودفعوا لأجل ذلك أثمانا مختلفة لاسترضاء حلفائهم سواء من نداء تونس أو من الثوريين في حكومة إلياس الفخفاخ.
وباتت أدبيات الإسلاميين محليا وخارجيا، وكذلك كلام حلفائهم في الخارج تعترف بأن النهضة فشلت في السنوات الماضية لأنها بحثت عن نجاتها كجماعة، ولم تفكر في وجودها كحزب سياسي ائتمنه مئات الآلاف من الناخبين لأجل تغيير حياتهم ومواجهة الفساد والمحسوبية لتتحول حركة النهضة بوعي أو دونه إلى مطبّع مع هذا الفساد وحام له.
تركت كل الوعود التي رفعتها في الانتخابات وراءها ما تعلق بتقليص البطالة وتوفير مواطن العمل وخدمة المناطق المهمشة، واحتفظت فقط بهاجسها الرئيسي، وهو تجنب السيناريو المصري، أي حصول تغيير شديد يفقدها نفوذها السياسي ودورها داخل مؤسسات الدولة، وقدمت لذلك كل التنازلات الممكنة ودون تردد.
جاء التغيير الشديد بطريقة لم تحتسبها، وباتت أمام مواجهة أخرى ليست مواجهة أمنية كما كانت تخاف، ولكن مواجهة شعبية بما في ذلك من داخلها: ماذا فعلت خلال عشر سنوات؟ هذا هو السؤال الرئيس الموجهة لها. انس قيس سعيد والفصل ثمانين وتأويلاتها، وهات نتحاسب.
سؤال يتوسع يوما عن آخر على مواقع التواصل وبين جمهور حركة النهضة وخاصة من الفئات الشبابية، حيث وقع العشرات من شباب الحركة عريضة تتهم النهضة بالتقصير “في تحقيق مطالب الشعب وتفهم حالة الاحتقان والغليان”.
واعتبروا أن “خيارات الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطريقة إدارتها للتحالفات والأزمات السياسية لم تكن ناجعة”.
إن شرعية المرحلة الجديدة التي يقودها سعيّد ستكون تحت المحك انطلاقا من زاوية الملف الاجتماعي والصحي المرتبط بالناس. الخطوة الأولى كانت مهمة من خلال توفير الملايين من التلاقيح من خلال تحرك دبلوماسي كشف عن مدى الاحترام الذي يحوزه الرجل في الخارج.
وإذا كان الرئيس سعيّد يريد أن يستمر في مسار خدمة الناس كما حملتها وعوده الانتخابية وعبرت عنها شعبيته وحماس الناس له، فعليه أن يضع وراءه حسابات السياسيين وأجنداتهم ولعبة خذ وهات التي هي سبب الفساد والمحسوبية والمحاصصة السياسية.
الرجل ليس رئيس حزب ولا أحد لديه عليه مزية، ولهذا فهو مهيأ لأن يتصرف بحرية كاملة لمواجهة الأمر الواقع بدءا بمواجهة الفساد وهو أم المعارك في تونس، من خلال كف أيدي العابثين واستعادة أموال الدولة وحقوقها التي تم تقديمها كقرابين لتأمين البقاء لمرحلة حكم الأحزاب التي لم تكن لديها أي علاقة بالدولة وآليات عملها.
الإشارات الإيجابية موجودة بينها تحرير القضاء من الضغوط السياسية، ومن حالة الإرجاء التي كانت مؤسسة القضاء تعيش على وقعها، ما منعها من التقدم في فك أسرار الاغتيالات السياسية، وكذلك فهم مآل أموال الدولة المنهوبة في ظل اجتراء على مؤسساتها ورموزها.
تحريك قضية الفوسفات وما أحاط بها من تعطيل طيلة عشر سنوات وما كلفته من خسائر للدولة أمر مشجع ومهم ويرسل بإشارات طمأنة على أن المرحلة الجديدة تضع ملف الفساد على رأس أولوياتها. لكن بالتأكد لا أحد يقبل بمن في ذلك رئيس الجمهورية أن تتحول قضية مواجهة الفساد إلى حرب شعارات قد تطال الكثير من الآمنين.
الإدارة الناجحة للأزمات هي التي تفكر بعقل بارد يعتمد الحجج والقرائن ويجعل الجميع يقبل به ويحترمه حتى أولئك المتضررون منه..
ما زال الطريق طويلا أمام التغيير الجديد، لكن المؤشرات الأولى تقول إن البلاد ستتحرر أخيرا من الحسابات والتكتيكات الحزبية والشخصية وستفتح الباب أمام الإنجازات ولو كانت بطيئة، فهي أفضل من فساد تحيط به الشعارات من كل اتجاه.