بقلم: رامي الريس – صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم– يُشكّل التلاعب غير المسبوق بالتوازنات الداخلية اللبنانية خطراً كبيراً على الصيغة والهوية والكيان. إنه اختطاف لبلدٍ برمته من موقعه الطبيعي وحاضنته التاريخية وتراثه التقليدي. إنه نقل للبنان من محور إلى آخر، وينطوي ذلك على مخاطر استثنائية لا تقتصر تداعياتها على الداخل اللبناني، بل تطول المنطقة العربية بأكملها، ليس لأن لبنان بلد قوي ومن شأن انهياره أن يغير المعادلات الإقليمية، بل لأن دوره وموقعه ورسالته لا يمكن الاستغناء عنها. إنه انتقال من النور إلى الظلام ومن الثقافة والانفتاح إلى التراجع والانغلاق.
وهذا التلاعب ليس وليد صدفة سياسية عابرة، أو أنه نتيجة تعاكُس ظروف معينة تركت ندوباً مؤلمة على الواقع اللبناني المريض. إنه بالأحرى تنفيذ دقيق وأمين لأجنداتٍ خارجة عن حدوده لها أولوياتها وسياساتها وأهدافها، لها مشاريعها ومخططاتها، والأهم أن لها أذرعها المسلحة وغير المسلحة التي لا تتوانى عن التطبيق الدقيق لكل ما يُطلب منها، وبكثير من الفخر والاعتزاز والتحدي.
وهذا التلاعب لا يمكن إعادة عقاربه إلى الوراء بخطواتٍ يتيمة مبعثرة غير منظمة، وفي ظل غياب رؤية شاملة تضع أسساً لاستعادة الأدوار المصادرة والهويات الضائعة مهما بلغت الصعاب، فالبدائل بكل بساطة لا تعدو كونها تماثل الاستسلام والانتحار السياسي وإعادة صياغة الهوية السياسية والثقافية والاجتماعية وتركيبها مجدداً بما لا يتلاءم مع لبنان وتركيبته القائمة على التعددية والتنوع.
لقد أتاح الوصول إلى هذا الواقع اللبناني البائس تقاطع المشروع الإقليمي الخطير مع أمراض العبثية السياسية الداخلية التي تحكّمت في أداء بعض الأطراف لسنواتٍ طويلة إلى أن انتهى بها الأمر للوصول إلى أعلى المناصب في الجمهورية. وهنا تكمن خطورة مجتمعية وسياسية من نوع آخر، بمعنى أن تفرز شرائح لبنانية هذا الخيار السياسي العبثي وترفعه إلى مصاف التحكم بمفاصل السلطة في المجلس النيابي والسلطة التشريعية، إنما يعكس في جانبٍ منه حالة مرضية جماعية تنساق إلى شعاراتٍ واهية، لا بل تدميرية، وتفوضها إدارة شؤون البلاد.
لقد تمادى هؤلاء في غيهم السياسي، فاحتجزوا تأليف الحكومات، وشلوا عملها حيث يلزم، وعطلوا قرارات حيوية وضرورية، ومنعوا توفير النصاب في جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. ولكن، فوق كل ذلك، كرّسوا أعرافاً دستورية وسياسية وميثاقية جديدة تتلاءم حصراً مع رؤيتهم الملتوية لكيفية إدارة شؤون البلاد في ظل التغاضي تماماً عما آلت إليه الصراعات الدموية اللبنانية التي تكبّدها المجتمع بغية الوصول إلى صيغة سياسية مختلفة نسبياً عن الصيغة السابقة، لا سيما لناحية إعادة توزيع الصلاحيات السياسية بين المؤسسات الدستورية والمرجعيات الرئاسية، من دون أن تعالج مشكلة لبنان التاريخية التي تتمثل في النظام الطائفي والمذهبي وانعدام المساواة بين المواطنين والتمييز بينهم وفق انتماءاتهم الطائفية.
إن التلاعب بهذه المسلّمات يؤدي إلى تعميق الخلل في التوازنات الداخلية، ويجعل التغيير بالممارسة مدخلاً إلى الفوضى التي لربما تتقاطع مجدداً مع تلك الأجندات الإقليمية التي سبقت الإشارة إليها والتي، للتذكير، لا هدف لها سوى تحقيق مشاريعها، ولو على حساب خراب مواقع الصراع الأصلية طالما أن مخططاتها لم تتأثر بهذا الخراب. وهي على استعداد لاستخدام أو توظيف هذا الطرف أو ذاك مهما تصرف بصورة صبيانية أحياناً وصورة أكثر ذكاءً في بعض الأحيان الأخرى، ومهما كانت بعض سلوكياتها ومواقفها تتناقض مع بديهيات العمل السياسي الذي يُفترض أن يصب أولاً وأخيراً في مصلحة الوطن.
لبنان أمام منعطفاتٍ خطيرة جراء هذا التحالف الموضوعي بين العبثية السياسية والسطوة الإقليمية. تحالف سطحي في شكله لكنه عميق في مضمونه. كلاهما يلتقي على اختطاف لبنان التاريخي واستلحاقه بمشاريع لا تمت لتراثه بصلة. كلاهما يبحث حصراً عن مصالحه الخاصة والفئوية التي حتى ولو تعارضت ظاهراً، فإن القدرة على إعادة لملمة مكامن الخلل فيها ممكنة ومتاحة ومطلوبة من الطرفين ما دام تحالفهما يوفر لهما ما يبحثان عنه في أجنداتهما: السيطرة والسلطة.
لا بأس ببعض مظاهر البهرجة لفريق العبث السياسي: قصور ورئاسات ومواكب وحق توقيع قادر على أن يُكبّل أكبر مشروع إصلاحي طالما لا نفع أو عمولة أو ارتزاق خاص من خلفه. ولا بأس بتشارك مصادرة القرار بالبلد ولو كان ذلك شكلياً فقط. المهم أن الثوابت الكبرى لا تُمس. دويلة داخل الدولة، تهريب منظم عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، مصادرة قرار الحرب والسلم… كلها تفاصيل عند العبثيين. المهم الإمساك بزمام السلطة حتى ولو على ما تبقى من لبنان جراء الانهيار الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق.