بقلم: أنس بن فيصل الحجي – اندبندنت العربية
الشرق اليوم- تاريخياً، وفي كثير من الأحيان، تعارضت السياسات البيئية وسياسات الطاقة مع سياسات الأمن القومي والسياسات الخارجية والاقتصادية للدول المستهلكة، ونتج من هذا التعارض أن قادة هذه الدول اختاروا الأمن القومي والأمن الاقتصادي على حساب السياسات البيئية وسياسات الطاقة.
الجديد الذي جاء به الرئيس الأمريكي جو بايدن ومبعوث المناخ جون كيري، والذي كان وزيراً للخارجية في إدارة أوباما-بايدن بين عامَي 2013 و 2017، هو أنهما أرادا التركيز على السياسات البيئية والتغير المناخي عن طريق مواءمة سياسات الأمن القومي والسياسيات الخارجية، الأهداف البيئية حتى لا يحصل التناقض الذي حصل تاريخياً. هذا التغير، ألا وهو تضمين التغير المناخي في السياسات الخارجية، بما في ذلك التجارة الخارجية، هو أهم تطور في الموضوع، وأكثره تأثيراً، لأنه لو أمكن تطبيقه فعلاً فإن التغير المناخي سيحل محل الإرهاب في تصنيف الدول، ومن ثم فإنه يمكن أن تنتج منه عقوبات اقتصادية وتقييد للتجارة الخارجية، وربما إجبار وتركيع بعض الدول.
إلا أنه يصعب تطبيق ذلك بالكامل واستبدال الإرهاب بالتغير المناخي بسبب طبيعة متطلبات “التغير المناخي”. فالتغير المناخي يتطلب تطبيق أنواع عدة من التكنولوجيا يتم إنتاج أجزائها حول العالم، بخاصة في الصين. فإذا أرادت الولايات المتحدة الضغط على الصين لأنها لم تقم بما هو كافٍ للتخفيف من آثار التغيّر المناخي، فإن الصين يمكن أن ترد بوقف تصدير المنتجات والتكنولوجيا اللازمة لتحقيق الحياد الكربوني في الولايات المتحدة!
كما بدأت في الفترات الأخيرة تظهر التناقضات بين سياسات وأهداف التغير المناخي والمصالح السياسية والاقتصادية في أغلب الدول المشاركة في الاتفاقيات الدولية للمناخ. وعلى الرغم من أننا في عهد بايدن، إلا أن آثار ترامب ما زالت موجودة، وتنعكس سلباً على سياسات بايدن. فقد أدى تحجيم ترمب للدور الأمريكي العالمي إلى تقوية المواقف الصينية والهندية، وهذا ما نراه في معارضتهم الجريئة لاتفاقيات المناخ اليوم، والتي بدت جلية في اجتماع وزراء الطاقة والبيئة لمجموعة العشرين منذ حوالى أسبوعين. كما أن تجربة هذه الدول مع ترمب في مجالات التجارة الخارجية، وحتى في موضوع النووي الإيراني، أظهرت أن السياسات الأمريكية غير ثابتة، وأن عودة ترمب أو أحد اتباعه إلى البيت البيض في 2025 أو 2029 تعني نقض اتفاقيات المناخ وتغيير السياسات. لذلك نجد أن الصين والهند أكثر جرأة في الحديث عن هذه الأمور في اتفاقيات المناخ.
خلاصة القول هنا إن آثار سياسات بايدن الخارجية المتعلقة بالمناخ محدودة وأكثر محدودية مما كان يُعتقد سابقاً. إلا أن الأمر ينطبق على دول أخرى. فالنرويج تتجاهل كل مطالب حماة البيئة وتقوم باستثمارات ضخمة في الدائرة القطبية للتنقيب عن النفط والغاز، وتقول إنه لا يمكن ترك هذه الاحتياطيات في باطن الأرض. قبلها قال رئيس وزارء كندا جستن ترودو إنه لا يوجد بلد في العالم لديه 170 مليار برميل من النفط ويتركها تحت الأرض.
وها هو ألوك شارما، رئيس مؤتمر المناخ “كوب 26″، يحذر من كارثة انهيار بيئي إذا لم تُتخَذ قرارات حازمة وحاسمة، لكنه رفض إدانة حكومة بلاده (بريطانيا) التي تخطط لحقل نفط جديد في بحر الشمال، يُمكنه إنتاج 150 إلى 170 مليون برميل.
عودة الفحم
وها هو الفحم يعود بقوة في دول عدة، بخاصة في الصين والهند وجنوب أفريقيا، على الرغم من الارتفاع الكبير في أسعاره، وعلى الرغم من إعلان هذه الدول عن خطتها للوصول إلى الحياد الكربوني. وبسبب أزمة الكهرباء في الصين، أعادت الصين تشغيل محطات كهرباء عاملة بالفحم كانت أغلقتها سابقاً. العودة إلى محطات الكهرباء التي أُغلقت لأسباب بيئية حدثت في دول أوروبية عدة بما فيها ألمانيا والسويد.
وعلى الرغم من تبني إدارة بايدن لسياسات التغير المناخي والترويج لها عالمياً، وعلى الرغم من حربها ضد الصين، إلا أنها سمحت بتصدير كميات ضخمة من الفحم إلى الصين، لتعوض بكين عن الفحم الأسترالي بعد توتر العلاقات الصينية-الأسترالية. وها هي أستراليا ترسل وفداً للهند لإقناع الهنود بشراء الفحم الأسترالي الذي لم تشتره الصين، على رغم منع نيوزيلندا الهنود من القدوم إليها، أو سفر النيوزيلنديين إلى الهند، بسبب فيروس كورونا!
وأعلنت نيوزيلندا عن أهدافها المناخية، والحياد الكربوني، ثم تفاجأ الجميع بأن استخدام الفحم في توليد الكهرباء زاد في الفترات الأخيرة 115 في المئة عن العام الماضي، كما أن وارداتها من الفحم زادت أيضاً.
التغير المناخي والديمقراطية
نظرة فاحصة للمنظمات البيئية المعتدلة منها والمتطرفة يبيّن أنها تستهدف الدول الديمقراطية في أسهل مناطق الهجوم عليها، وكلما ارتفع مستوى الديمقراطية، كلما كبر مستوى الهجوم. ولكن لا تجرؤ هذه المنظمات على مهاجمة روسيا، مثلاً.
كما يتضح من كتابات أكبر المفكرين والناشطين في مجال البيئة خلال الـ 40 سنة الماضية أنهم يفضلون النظام المركزي القوي كالذي في الصين وروسيا، وينزعجون من وجود الديمقراطيات، لأن الديمقراطية تبطئ التحول الطاقي الذي يريدون.
وانزعجت هذه المجموعات انزعاجاً شديداً عندما عارضت محكمة فيدرالية قرار بايدن الرئاسي القاضي بوقف عمليات تأجير الأراضي الفيدرالية والحفر فيها. هم يريدون الأمر كذلك: أمر رئاسي بوقف عمليات التنقيب عن النفط والغاز. الديمقراطية لا تناسبهم، لهذا هاجم بعضهم النظام القضائي المستقل في الولايات المتحدة، فقط لأن المحكمة أصدرت قراراً لا يناسبهم. وبهذا فهم لا يختلفون عن أتباع ترامب إلا في الاسم فقط.
كما أثيرت شكوك حول تمويل هذه المنظمات، إذ إنه تمويل ضخم وموجه، جعل البعض، بخاصة الجمهوريين في الولايات المتحدة، يتهمون الصين بتمويل هذه المنظمات. مع العلم أن كلمة “تمويل” هنا قد تتخذ أشكالاً مختلفة.
المثير في الأمر، أن توجُّه الصين إلى الفحم جاء بقرارات مماثلة لقرارات توجهها إلى الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية. البيئيون أبرزوا دور الحكومة المركزية وانعدام الديمقراطية في نجاح الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، ولكن انتقدوا المركزية الحكومية عندما قررت التركيز على الفحم!
خلاصة الأمر أن هناك مبالغات كبيرة في موضوع آثار تطبيق سياسات التغير المناخي لأن الدول الكبرى لن تلتزم أصلاً، ومن ثم فإن الطلب على الوقود الأحفوري سيكون أعلى من المتوقع، بما في ذلك الطلب على النفط.