بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- لا يزال مفهوم الديمقراطية محطّ جدل واسع من حيث التعريف، فهو من أكثر المفاهيم في علم الاجتماع السياسي، التي لا يمكن الإمساك بمضمون محدد لها بعيداً عن طبيعة الدولة والنظام الاقتصادي القائم، ولئن بقي التعريف اليوناني القديم القائل بأن الديمقراطية هي “حكم الشعب” متداولاً وأساسياً، إلا أن هذا التعريف، وخصوصاً في القرن العشرين، عرف انزياحات عديدة، مع التطور الرأسمالي من جهة، وترسيخ قيم الليبرالية من جهة ثانية، فقد أصبح مفهوم الديمقراطية مقترناً أكثر بشكل نظام الحكم، القائم على التداول السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع.
في ميثاق الأمم المتحدة لم تذكر كلمة الديمقراطية، لكن المؤسسين استلهموا مغزاها اليوناني؛ حيث اعتبروا أن “إرادة الشعوب مصدر شرعية الدول ذات السيادة”، وخلال مسيرة الأمم المتحدة أصبحت الديمقراطية وقيمها جزءاً لا يتجزأ من أدبياتها، وفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان تم الإقرار بأن “إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكومة”، لكن هذه التعريفات، تبقى عامة، وخاضعة لتفسيرات واجتهادات عديدة، فالكثير من حكومات دول فاعلة ومؤثرة عالمياً، تدّعي أنها تمثّل إرادة الشعب، من دون أن تتبنى مرجعيات الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، أو حتى من دون أن تتوفر الشروط المطلوبة لنزاهة الانتخابات فيها.
عادة ما يتم ربط الديمقراطية بالغرب، أي ربطها بالنظام الرأسمالي الليبرالي، وتؤخذ التجربة الغربية بوصفها مثالاً عن الديمقراطية، خصوصاً لجهة قياس تجارب دول أخرى، تُعرّف نفسها بأنها ديمقراطية، وإذا كانت التجربة الغربية قد مرّت بأزمات عديدة، لكنها تمكّنت بعد الحرب العالمية الثانية من بناء نظام سياسي يمنع تأسيس أحزاب نازية أو فاشية، لضمان عدم تكرار تجربتي ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينات القرن الماضي، وبما يصون تجربة الانتقال السلمي للسلطة، لكن الديمقراطية الغربية بطابعها التمثيلي لم تفض إلى نتائج متطابقة في كل دول المنظومة الغربية، وفي بعض الأحيان أصبحت مناقضة لأحد تعريفاتها الأساسية، أي بوصفها “حكم الشعب مقابل حكم النخبة”.
من الناحية العملية، لا يمكن لكل أفراد الشعب أن يوجدوا في الحكم، وطبقاً لهذه الاستحالة، فإن الشعب يوجد في الحكم من خلال ممثليه، أي الأحزاب السياسية بصفة خاصة، لكن الواقع الفعلي يطرح عدداً من الأسئلة حول صيغة الديمقراطية التمثيلية، وأول تلك الأسئلة هو: هل بالفعل يمكن للديمقراطية التمثيلية أن تمثّل الشعب حقاً؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون اللجوء إلى بعض المقاربات الاقتصادية والمعيشية ومعدلات الثراء والفقر، فالجانب الإحصائي لهذه المقاربات يظهر اتساع الهوّة بين الطبقتين العاملة والفقيرة وبين الطبقتين الوسطى والغنية، كما تبرز حالة من الثبات والنمو في ثروات الأغنياء، بينما تتعرّض حياة الطبقات الأخرى لحالات عدم استقرار، كما حدث خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حين اضطرت الكثير من العائلات في الغرب، وخصوصاً في أمريكا، للتخلي عن بيوتها، بعد أن عجزت عن سداد أقساطها للبنوك.
يقوم أثرياء أمريكا بتمويل الحملات الرئاسية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقد وصلت تكلفة انتخابات عام 2020 إلى 10 مليارات دولار، وتهدف التمويلات إلى تحقيق أهداف وفوائد كثيرة للداعمين، وفي مقدمتها حماية مصالحهم الاقتصادية والمالية، وهو ما يجعل من انتخابات أعرق ديمقراطية في العالم سباقاً تنافسياً بين الأثرياء، كما يجعل النظام السياسي نفسه، في أحد أوجهه، نظام حماية للطبقة الرأسمالية .
قد يكون المثال الأمريكي الأكثر وضوحاً للنموذج الذي تصبح فيه الديمقراطية نظاماً سياسياً لحماية مصالح الأثرياء ومؤسساتهم العملاقة، لكن هذا النموذج موجود بهذه الدرجة أو تلك في الديمقراطيات الأوروبية، بما فيها الدول الديمقراطية الاجتماعية، وإذا كان هذا النموذج قادراً على تأمين الاستقرار الاجتماعي، وتحقيق مساواة قانونية للأفراد، واحترام حقوقهم وحرياتهم، إلا أنه قد تحوّل أيضاً إلى شكل من أشكال التعاقد الاجتماعي بين النخب الرأسمالية على إدارة المصالح فيما بينها، واستخدام الانتخابات كوسيلة لتظهير عملية إدارة تلك المصالح.
منذ عقود، أصبحت الديمقراطية مرادفة لحقوق الإنسان، لكنها في الوقت ذاته أصبحت آلية سياسية لمنع حدوث خروق مؤثرة في تكوين الطبقة المسيطرة في المجتمع الديمقراطي، أي أداة لضبط ومعايرة الفوارق الطبقية لمصلحة النخب، ما يستدعي فعلياً إعادة تعريف الديمقراطية، ليس انطلاقاً من قدرتها على تمثيل الشعب؛ بل من كونها الإطار السياسي لحكم النخب الليبرالية، وخصوصاً النخب الاقتصادية والمالية..