بقلم: هشام ملحم – موقع الحرة
الشرق اليوم- عندما استولى الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونغ على الصين في 1949، طرح السياسيون والأكاديميون في الولايات المتحدة سؤالا تردد في العقود اللاحقة، وإن بصيغ مختلفة بعض الشيء: من خسر الصين؟
طبعا السؤال مبني على فرضية خاطئة وحتى مهينة للدولة التي يفترض أن واشنطن خسرتها. أن يخسر الإنسان شيئا، يعني أنه خسر ما كان يملكه شرعا. النفوذ الأميركي والغربي في الصين، الذي كان كبيرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، لا يعني أن هذه الدول كانت تملك الصين لكي تخسرها للشيوعيين بعد ثورتهم الطويلة والدموية.
اليوم، وبعد أكثر من 70 سنة على سؤال من خسر الصين، نسمع أصواتا دبلوماسية في واشنطن تناشد الرئيس جوزيف بايدن والمسؤولين في حكومته: لا تخسروا أفغانستان.
هذا السؤال طرح وبشكل مؤلم أكثر في 1975 عندما سقطت سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية في أيدي قوات الفيتكونغ وجيش فيتنام الشمالية.
الانسحاب الأميركي من فيتنام بقي محفورا في الذاكرة الجماعية للأميركيين من خلال صورة لمروحية تقلع من سطح السفارة الأميركية تاركة ورائها صفا طويلا من اللاجئين الذين تم التخلي عنهم.
من خسر فيتنام؟ لم يكن سؤالا فقط، بل كابوسا هيمن على الطبقة السياسية في واشنطن لسنوات طويلة، وهاجسا لمئات الألاف من العسكريين الأميركيين الذين خدموا في فيتنام، وخسروا أكثر من 58 الفا من زملائهم في حقولها وغاباتها.
الإجابات عن السؤال كانت عديدة، وإن لم يكن بينها جواب واحد مقنع بحد ذاته. البعض وجه اللوم إلى الرئيس جون ف كينيدي الذي ورّط أميركا في الحرب حين نشر مستشارين عسكريين. كثيرون وضعوا اللوم على خلفه الرئيس ليندون جونسون الذي أرسل مئات الآلاف من الجنود إلى فيتنام، وآخرون وجهوا اللوم إلى الرئيس ريتشارد نيكسون الذي وسّع رقعة الحرب، وأطالها، قبل الدخول في مفاوضات سلام مع الشيوعيين.
لاحقا وضع المؤرخون اللوم على طبقة سياسية في واشنطن، من الحزبين، سمحت لهاجس مكافحة الشيوعية، وتحديدا نظرية “الدومينو” (إذا سقطت دولة في جنوب شرق آسيا في قبضة الشيوعية مثل فيتنام، فإن دولا أخرى سوف تسقط بعدها مثل حجارة الدومينو) أن يحجب عن أعينها الحقائق السياسية والاجتماعية المختلفة بين دولة وأخرى.
السؤال تردد في واشنطن حين أسقطت الثورة الإسلامية في إيران الشاه محمد رضا بهلوي في 1979، خلال ولاية الرئيس جيمي كارتر، بعد ثورة شعبية لا تزال تردداتها تهز إيران والمنطقة، ولا تزال تشكل معضلة وتحديا كبيرا لجميع الرؤساء الذين خلفوا كارتر.
هل كان كارتر مسؤولا عن “خسارة إيران”، أم أن الولايات المتحدة (وبريطانيا) قد زرعتا بذور الثورة ضد الشاه في 1953 حين أطاحت بريطانيا، بدعم أميركي، برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، وتمت إعادة الشاه الشاب إلى السلطة؟
الجمعة الماضية، نشر 5 دبلوماسيين أميركيين متقاعدين، خدموا كسفراء أو في مناصب بارزة في سفارتي الولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان مقالا بعنوان “لا تخسروا أفغانستان” في موقع “المجلس الأطلسي” وهو مركز أبحاث في واشنطن، وبدا المقال موجها للرئيس بايدن والمسؤولين في حكومته.
موقعو المقال طالبوا الرئيس بايدن “بتصحيح” سياسته في أفغانستان من خلال مضاعفة جهوده لدعم القوى الأفغانية الأمنية وخاصة الدعم الجوي، وضرورة التطبيق الحازم للوعود الأميركية المتعلقة بمواصلة المساعدات الأمنية والاقتصادية والإنسانية والدبلوماسية.
كما حضوا الرئيس بايدن على أن يعتمد في أفغانستان سياسة “المشاركة المحدودة” التي تعتمدها واشنطن حاليا مع الحكومة العراقية، أي مواصلة دعمها عسكريا ولوجستيا وبالمشورة عبر عدد محدود من العسكريين الأميركيين.
الهدف من هذا الدعم، وفقا للدبلوماسيين السابقين، منع هزيمة وانهيار الدولة الأفغانية، وإيصال القتال إلى مرحلة الجمود الفعلي، وإرغام الطرفين على الدخول في مفاوضات جدية تؤدي إلى تسوية.
لا يوجد في هذه المقترحات أي شيء جديد او خلّاق أو قابل للتحقيق دون تعديل ضخم وجذري في سياسة واشنطن تجاه افغانستان. موقعو المقال لم يشرحوا كيف يمكن ايصال القتال الى مرحلة الجمود الفعلي، أي التعادل العسكري، بوجود عدد محدود من الجنود الأميركيين، عندما لم تنجح واشنطن بفرض مثل هذا الجمود عندما كان لديها ولقوات حلف شمال الاطلسي عشرات الآلاف من العسكريين في أفغانستان على مدى عقدين من الزمن.
رد الفعل الأميركي الفاتر على احتلال قوات طالبان لثلاثة عواصم مقاطعات في شمال أفغانستان من بينها مدينة قندز المهمة اقتصاديا، في حملة تصعيد عسكري نوعي، مؤشر هام بأن الرئيس بايدن لا يعتزم تغيير أو “تصحيح” سياسته الرسمية تجاه الانسحاب النهائي من أفغانستان، وأنه لن يعدل سياسته وفقا للتطورات الميدانية المتغيرة يوميا.
المسؤولون الأميركيون يقولون إنهم سيواصلون توفير الدعم العسكري الجوي للقوات البرية الحكومية، ويشيرون إلى أن هذا الدعم ساهم في صد قوات طالبان التي حاولت تضييق الخناق على مدينة قندهار، ثاني أكبر مدينة في أفغانستان، والمكان الذي خرجت منه حركة طالبان. ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا الدعم الحيوي سوف يستمر بعد نهاية الشهر الجاري، أي بعد النهاية الرسمية للانسحاب الأميركي.
وبدلا من تكثيف العمليات الجوية، دعت الحكومة الأميركية حركة طالبان إلى وقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات جدية مع الحكومة الأفغانية. وفي الوقت ذاته حضت رعاياها في أفغانستان على مغادرة البلاد “فورا”.
البيت الأبيض يدرك أن طالبان أوقفت المفاوضات مع الحكومة الأفغانية منذ زمن، كما أنها تنتهك الاتفاق الذي وقعته قبل أقل من سنتين مع إدارة الرئيس ترامب، الذي تم فيه الإعلان عن موعد للانسحاب الأميركي، خاصة أنه يدعو إلى عدم مهاجمة عواصم المقاطعات. كل ما تفعله حركة طالبان ميدانيا يقول، بصوت مدو، إنها تعتزم استعادة سيطرتها على السلطة في كابول.
تسارع وتيرة الانتصارات التكتيكية لطالبان ومحدودية الدعم الجوي الأميركي، والوقت الطويل نسبيا لهذه الطائرات للوصول إلى الاجواء الافغانية من قواعدها في بعض دول الخليج العربية، تعني أن الضغوط سوف تتفاقم على القوات الأفغانية الخاصة وقدراتها المحدودة في صد أو استعادة السيطرة على أي مواقع كبيرة تحتلها قوات طالبان.
المسؤولون الأميركيون يواصلون القول إن القوات الحكومية لديها ما يكفيها من جنود وعتاد لمواجهة قوات طالبان، وإن القوات الحكومية عندما تدرك أن الخلاص لن يأت على أيدي القوات الأميركية سوف تضطر للقيام بأداء عسكري أفضل.
يوم الجمعة أوضحت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، بشكل لا لبس فيه، أن الحرب الأميركية في أفغانستان انتهت وإن كانت الحرب الأفغانية-الأفغانية مستمرة، حين قالت إن الرئيس بايدن مستعد منذ زمن لاتخاذ “القرارات الصعبة” بشأن الانسحاب من أفغانستان.
وأضافت: ” لقد أوضح الرئيس أنه بعد 20 سنة من الحرب حان الوقت للجنود الأميركيين للعودة إلى الوطن..”. هذه طريقة الرئيس بايدن في القول للحكومة الأفغانية: أنتم وحدكم الآن.
وفي حال توقف الدعم الجوي الأميركي للقوات الحكومية مع نهاية الشهر الجاري، وفقا للموقف الرسمي، فإن الحالات التي ستلجأ فيها واشنطن من جديد إلى سلاحها الجوي في أجواء أفغانستان سوف تكون فقط لضرب أي تحركات أو خطط هجوم يمكن أن تشنها تنظيمات إرهابية في البلاد مثل القاعدة أو “داعش” ضد أهداف أميركية، أو ضد دول حليفة. وما تسعى إليه حكومة بايدن حاليا هو تأجيل موعد ما يعتبره العديد من المحللين العسكريين والسياسيين أمرا حتميا، أي سقوط أفغانستان في أيدي طالبان.
الرئيس بايدن يدرك أن أكثرية الأميركيين، من جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين، تؤيد الانسحاب من أفغانستان، ولذلك لا يعتقد المسؤولون في البيت الأبيض أنه حتى ولو عادت حركة طالبان إلى حكم أفغانستان، فإن أكثرية الأميركيين لن تلوم بايدن بالضرورة ولن تحمله مسؤولية “خسارة” أفغانستان.
لكن هذا لا يعني أن سقوط مدينة مثل قندهار في أيدي طالبان، لن يضع حكومة بايدن في موقع دفاعي محرج، وطبعا سقوط كابول في أيدي الحركة، خاصة أن مثل هذه التطورات سوف تكون عنيفة ودموية وسوف تؤدي إلى نسف كل ما حققته المرأة الأفغانية خلال العشرين سنة الماضية من تقدم، سوف تضع بايدن في وضع محرج أكثر. ولكن من المتوقع أن يجدد الرئيس الأميركي ما قاله في خطابه الذي أعلن فيه خطة الانسحاب، من أن البقاء سنة إضافية، أو أكثر، في أفغانستان لن يحل معضلة أميركا في تلك البلاد.
الرئيس بايدن يدرك أن تحدياته الآنية، والأخطر، داخلية.. وهي ببساطة وبصراحة إنقاذ وصيانة الديمقراطية الأميركية، بعد النكسة الكبيرة التي منيت بها في السادس من يناير السابق خلال اجتياح الكابيتول، وليس مساعدة بعض المؤسسات الديمقراطية الضعيفة أصلا في دولة مثل أفغانستان أو غيرها.
وعلى الصعيد الخارجي، بايدن، وهنا المفارقة، يوافق مع سلفه ترامب على ضرورة “إنهاء الحروب التي لا نهاية لها ” في أفغانستان والعراق، والتركيز على الخطر الاقتصادي والاستراتيجي المتصاعد لدولة مثل الصين، ولكتلة الدول الأوتوقراطية في العالم، التي تشكك بجدوى النظام الديمقراطي وربما بقدرته على البقاء على قيد الحياة، بعد نكسة الديمقراطية الأميركية وانكفاء الديمقراطيات الاوروبية.
مناقشة التنويعات المختلفة لسؤال “من خسر أفغانستان”، أو صرخة “لا تخسروا أفغانستان” في الوقت الذي يبدو فيه أن البلاد في طريقها لأن تصبح إمارة أفغانستان، سوف يبدو أكاديميا بامتياز في الوقت الذي ينهار فيه الصرح السياسي والاقتصادي والأمني الهش الذي بنته الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال العقدين الماضيين.
ربما بعد ان يتبدد غبار ودخان المعارك في أفغانستان، سوف يطرح المحللون، وقطعا المؤرخون في المستقبل، أسئلة تتخطى مسألة وضع اللوم على هذا الرئيس أو ذاك، أو هذه السياسية المعينة أو تلك، إلى طرح سؤال صريح ومباشر على المؤسسة السياسية-الأمنية الأميركية على مدى العشرين سنة الماضية: لماذا تأخرت هذه المؤسسة والقيّمون عليها في مصارحة أنفسهم والشعب الأميركي بما عرفه معظم العاملين فيها: لماذا أطلتم أجل حرب كنتم تعرفون منذ البداية أن الانتصار فيها ممنوع؟ أو غير ممكن؟