بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- في ذكرى هجرة نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام سألت نفسي عن معنى مفهوم الهجرة، وعن دلالته التي رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهميتها المركزية في قيام الإسلام وانتشاره، وعن القيم التي تضمنتها، والتي من أجلها قرر الفاروق بدء التأريخ الإسلامي بها.
لكل تقويم عيده واحتفالاته برأس سنته، احتفالات رأس السنة الميلادية التي كانت تخص الأخوة المسيحيين في ما سبق، أصبحت احتفالات عامة لكل سكان الكرة الأرضية منذ أن أصبح التقويم الميلادي هو الرسمي متجاوزاً بعده الديني. ثمة أيضاً التقويم العبري الذي لا نكاد نفطن كثيراً له عند الأخوة اليهود، ولا حتى نكاد نعرف كم بلغت السنة العبرية، وفي أي شهر يكون رأسها. ولدينا التقويم الهجري الذي تتجاوز قيمته الروحية في وعينا قيمته الرسمية، بينما دلالته (الهجرة) ما زالت ماثلة تلازم أبناءنا الذين لم يجد أغلبهم الأمل من بعد رحيل رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا.
أول ذي بدء.. ربما لا يجوز التشعّب في الكتابة حول موضوعٍ مفردٍ واحد، حيث تتلاشى زبدة الأفكار عند توزيعها على التفاصيل، ولكن ما العمل حين يكون الموضوع المراد معالجته بحد ذاته شجرة ضاربة جذورها في كل اتجاه، مترامية أغصانها ومتشعبة، لا يترك فيؤها مجالاً إلّا ويظلله ويؤثر فيه. ورغم أن الشجرة هي المثال الأول على البقاء في المكان إلا أن الحديث هنا عن الهجرة، عن تركك بيتك وبلادك، بنية الرجوع أو البقاء، رغم الحنين أو بدونه، وعن “قتل” جزء من حياتك من أجل ولادة حياة جديدة ما كان لك من سبيل لإيجادها في موطنك.
لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الهجرة باتت اليوم تساهم كثيراً في رسم صورة العالم، ولولاها لعشنا في عالم آخر تماماً، إذ يقدم المهاجرون في عصرنا هذا ذروة مساهماتهم العالمية في شتى المجالات، ولئن فردت الهجرة أغصانها وأوراقها على عالمنا المعاصر ليشهد أوضح تجلياتها، إلا أنها ليست وليدة الحداثة أو ما بعدها، بل هي قديمة قدم التاريخ نفسه، ولدت معه في ذات اليوم، وكانت محور قصصه ولبها، الأسطورية منها أم الواقعية، الدينية أم المدنية.
ألم يهاجر إبراهيم بأهله إلى مكة؟ ألم يهاجر موسى وبنو إسرائيل من مصر؟ ألم يهاجر تلامذة المسيح ليصبحوا رسله الذين حملوا منارة المسيحية إلى أطراف العالم؟ ألم تهاجر علّيسة (أليسار الفينيقية) لتبني قرطاج؟ وهاجر عبد الرحمن الداخل لتكون الأندلس؟ ألم يهاجر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الحبشة؟ ثم بقية الصحابة إلى المدينة حتى لحقهم؟ كيف كان سيبدو العالم اليوم لولا كل تلك الهجرات وغيرها؟
لسوء الحظ، لم يتم تناول هجرة النبي(ص) وصحابته من مكة إلى المدينة كثيراً بمعزل عن خلفيتها الدينية، رغم ما لهذه التجربة من أهمية، وإذ نتطرق هنا لتبيان فلسفة الهجرة في بعدها العملي لاستلهام دلالاتها في سلوكنا وحياتنا المعاصرة، فإننا نهدف بذلك إلى تبيان تجربةِ هجرةٍ هي الأنجح عبر التاريخ، حتى يكاد يجوز وصفها بـــ “الهجرة الكاملة”، فما الذي يدفع إنساناً –كائناً من كان– إلى ترك بلاده والبحث عن أخرى، سوى أن موطنه الأول لم يشكل تربة يزرع فيها ما يريد أن يحصده، وهذا بالضبط ما حدث مع النبيّ الكريم، إذ لم تلق دعوته أرضاً خصبة بين أبناء قومه، ولم تعد عليه وعلى صحبه إلا بالضرر والاضطهاد، فوجد نفسه أمام خيار وحيد وهو إيجاد تربة بديلة، وبهذا يعطي مثالُ نبينا الكريم وصفاً نموذجياً لحالة المهاجر التقليدي، الذي يفقد كل أمل في البقاء والإنتاج في المكان نفسه، فيلتفت إلى البعيد المجهول فعلياً، لكن هذا المجهول يحمل في طياته على الأقل احتمالاً للنجاح، احتمال الفشل قائم عند الانتقال لكنه أكيد في حال البقاء.
لو أراد الله سبحانه أن يرفع كأس الهجرة المرّة عن نبيه لفعل، فهو على كل شيء قدير، لكن لا بد أن من وراء ذلك حكمة، لن ندركها كلها بالطبع، لكننا صرنا نعرف أن السعي وراء النجاح “سنة” علينا أن نتمثل فيها نبي الله، حتى لو اقتضى ذلك تركنا لأرضنا والانتقال إلى بلاد جديدة.
يحمل المهاجر معه في الغالب شيئاً من موطنه، حتى لو تقطعت خيوط الارتباط بسكين اليأس، وحتى لو شكلت لغته ونسبه وقوميته عبئاً يرزح تحته ووسماً يوصف فيه. في حالة الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان موضوع القومية والنسب أقل وطأة بسبب عموم دعوته لكل البشر من دون تمييز، إذ “لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى”، وبذلك ألغت الفوارق بين جميع المنتسبين إليها ولا سيما بين المهاجرين وأبناء المدينة. هذا أحد الأسباب التي تجيز وصف الهجرة النبوية بالهجرة الكاملة، يضاف إليه النتائج التي أفرزتها، فقد أعطت حالة من الاستقرار لأتباع الدين الجديد مكّنتهم من إنجاح مشروعهم الذي انتقل بها من حالة الدعوة إلى حالة بناء دولة ذات مؤسسات وأسس قوية، توسعت فيما بعد لتصبح إمبراطورية سطرت جزءاً لا يمكن محوه ولا يمكن تجاهل تأثيره في رسم صورة عالمنا الذي نعيشه اليوم.
تتجلى بالمقابل أسباب أخرى للهجرة، قد لا يكون الاضطهاد المباشر أحدها، إنما أن يصبح المكان الذي يقطنه المرء غير صالح للحياة، لعدم توافر أبسط الشروط كالأمن الشخصي والغذائي، وتوافر متطلبات العيش البسيطة من أدوية وبنى تحتية وخدمات لا يمكن الاستمرار دونها مثل الكهرباء والماء، وهذا ما يحدث في الدول والمناطق التي ما زالت تحت وطأة الصراعات الدائرة منذ سنين طويلة، في سوريا مثلاً والتي أصبحت بسبب الحرب الدائرة منذ عشر سنوات فيها، ثم الحصار العالمي الذي تزامن معها، بلداً من دون تيار كهربائي بشبكة مواصلات متردية ودخل فرد شحيح يجعل أغلبية الشعب السوري ترزح تحت خط الفقر، ما يعني أنهم جميعاً مشاريع مهاجرين.
وبينما يشكل المهاجرون أكبر مخاوف الدول الأوروبية اليوم، فإنهم من جانب آخر يكتبون بعض الصفحات المضيئة في كثير من المجالات العلمية والرياضية والفكرية، وفي هذا برهان واضح على أن الإنسان يستطيع تسخير طاقاته في خدمة المجتمع الذي يحتضنه، ما يعيد إلى الأذهان “الكوزموبوليتانية” أو فكرة المواطن العالمي التي ابتكرها “الكلبيّون” في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث أجاب ديوجانس الكلبي عندما سئل من أين أتى: “أنا مواطن من هذا العالم”، ليطور أتباعه الفكرة فيما بعد ويركزون على أن كل إنسان يسكن في مجتمعين، المجتمع الذي ولد فيه ومجتمع الطموح الإنساني، وبذلك يكون لكل إنسان الحق في ترك مكان ميلاده والاتجاه إلى حيث يحقق ذاته التي لا تتوافر في موطنه الأصلي شروط تحقيقها.
إن قراءة معمّقة للتاريخ الإنساني توضح لنا أن فكرة الهجرة عنصر حاسم في تشكيل التوزع الجغرافي للأقوام، وبذلك فإن معظم البشر ينحدرون من آباء مهاجرين في الأصل، حتى لقد قامت في العصر الحديث دول كاملة على الهجرات، ومثال ذلك دول القارة الأميركية والولايات المتحدة خصوصاً، والمستغرب هنا أن الأقوام التي هاجرت إلى “الأرض الجديدة” ومارست التطهير العرقي بحق الأميركيين الأصليين، شكلوا قومية جديدة رفضت المهاجرين الجدد في ما بعد، ومارست عليهم مختلف أشكال العنصرية، واستغرق الأمر عقوداً عدة حتى تمكنت الولايات المتحدة من سن القوانين التي تحد من معاداة الوافدين لتصبح الأمّة الأميركية أمّة مختلطة تضم مهاجرين من شتى بقاع الأرض، فألغوا بذلك التضاد بين فكرتي القومية والهجرة، رغم أن هذه العنصرية لما تزل تطفو على السطح في بعض الأوقات، تعكسها بعض القوانين التي تحد من هجرة أناس معينين بحسب بلدانهم الأصلية أو انتماءاتهم أو حتى أديانهم.
وفي حين تتمسك بعض الدول بقيود الأفكار القومية وشروطها، كأنها لا تزال في القرن الثامن عشر، ينشأ في دول أخرى مجتمع إنساني مختلط، تقوده حكومات عرفت كيف توجه بوصلتها باتجاه استثمار الفرد بغض النظر عن أصله ولونه وعرقه ودينه، وكأن مفكري هذه الدول ومشرعيها قد اطلعوا على تجربة الرسول العربي في الهجرة، وتعلموا منها وأخذوها بالحسبان رغم بعدهم كل البعد عن التراث الإسلامي، وانتمائهم إلى تراث آخر قد يختلف ويتفق معه في كثير من المواضع، بينما تبقى بعض الدول العربية –التي ترتبط مباشرة بهذا الإرث– منغلقة على نفسها ترفض هجرة الآخرين إليها، وهم عرب أيضاً في الغالب، متناسية أن الجنسية ليست إلا معاملة بيروقراطية، أما الانتماء فهو شعور ورابط بالغ القوة يخلقه الانفتاح والتقبل والصدر الرحب، وأنها إذ تغلق أبوابها في وجه الوافدين فإنها تخسر كل ما يمكن لهؤلاء تقديمه لبلدانهم الجديدة، وتدفعهم دفعاً إلى أحضان الغرب وغيره، حيث ينمون وينتجون وتزدهر بهم أوطانهم الجديدة، وتبقى أغلب بلداننا العربية غارقة في الطائفية والمناطقية والعصبيات المدمرة والأنظمة الظالمة التي تجعل منها أكبر خزان للمهاجرين في العالم.
يقول الفيلسوف والمؤرخ والناقد البريطاني برتراند راسل في قصة “المرأة والنمر” الواردة في كتابه “السلطان”: «عندما مر كونفوشيوس على مقربة من جبل (تاي) أبصر امرأة تقف إلى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع المعلم وبعث بتلميذه تسي لو يسألها عن حالها وسبب بكائها، فجاوبته: “قد قَتل نمر من قَبْل والد زوجي في هذا الموقع، وقتل زوجي أيضاً، وها هو ولدي قد مات الميتة نفسها”، فقال المعلم: ولماذا لم تتركوا هذا المكان؟ فردت المرأة: ليست هنا حكومة ظالمة. فقال المعلم آنذاك تذكروا يا أولادي إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر. نعم إن الحياة في غابة أفضل من الحياة في مجتمع بدون قانون».
إذا أرادت الدول العربية أن تحافظ على رأسمالها البشري، ثم أن تصبح وجهة لكفاءات وافدة فعليها بناء السلام لأنه وحده القادر على إنهاء كل أشكال الظلم والاضطهاد الذي يسود في عدة أماكن من منطقتنا العربية، ودون ذلك سيظل الاستنزاف البشري مستمراً.
في الختام.. وبالعودة إلى ذكرى هجرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى ضرورة استحضار دروسها المهمة في كل عام، وتطبيق دلالاتها في سلوكنا وحياتنا المعاصرة، ينبغي أن ندرك أن الرسول الكريم قد هاجر وعمره ثلاثاً وخمسين سنة، وأنه عمل منذ اليوم الأول على البقاء والاستمرار، وحتى لما عاد الى مكة فاتحاً منتصراً، أنهى مهمته فيها على عجل، وعاد الى المدينة المنورة مرة أخرى، ثم لما مات لم يختر الدفن في مسقط رأسه، بل في الأرض التي رحّبت به وبين أهلها الذين نصروه.. كل هذا جرى بأمر الله ولحكمته، وباستجابة الرضا من نبيه، ولقد أدرك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) دلالات هذه الهجرة وقيمتها، فاختارها ليبدأ منها التأريخ الإسلامي، بعدما كان العرب يؤرخون بعض أيامهم بذكرى عام الفيل يوم هُزم أبرهة على أبواب مكة.. العام ذاته الذي صادف مولد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
كل عام وأنتم بخير وإلى هجرات جديدة على خطى تلك التي امتدت منذ الأنبياء والرسل حتى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. فالهجرات لا تزال مستمرة من جميع البلدان العربية تستنزف شباب الأمة ومقدراتها، بينما أبو لهب وأبو جهل المعاصران متشبثان باستبدادهما وبكراسيهما، وقد أقسما أن يتمسكا بها للرمق الأخير، فلا يهجرانها حتى لو هاجرت شعوبهما عن بكرة أبيها، لكن الهجرة ستكون حينها لا كما كانت في السابق، حين هاجر النبي مكة ليعود اليها فاتحاً، بل هي هجرة المغلوب على أمره، والذي سيقسم حين يخرج من هذي البلاد أن لا يلتفت الى الوراء أبداً، هجرته لوجهة مسيحية هذه المرة.. وجهة الغرب المسيحي الذي صار يستحق في نظر كثيرين منا نحن العرب أن تُمتطى له قوارب الموت على أمل النجاة.