بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- محظوظون شباب علماء العلاقات الدولية. هؤلاء لديهم فرصة تاريخية بأن يكونوا شهوداً على آليات صنع نظام دولي جديد. لدواعي الدقة كان يجب أن أضيف كلمة أو أكثر تعبر عن حقيقة أن العالم لا يزال في مرحلة مبكرة من مراحل قد تكون عديدة تسبق نشأة النظام الدولي الجديد.
هذا التحفظ يتضمن احتمال وقوع حرب عالمية في مرحلة قادمة يراها بعض صانعي النظام الجديد شرطاً تاريخياً ضرورياً بدونه لا يقوم نظام دولي. صحيح أن التاريخ يبلغنا وبإصرار أن نظام توازن القوى الذي حافظ على السلم في أوروبا، وبالتالي في العالم الغربي وفي العالم بحكم عالمية الهيمنة الغربية على إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، هذا النظام حافظ على السلم العالمي لمدة قرن كامل، لم ينجر إلى نهايته المحتومة إلا حين خرقت دولة من الدول الأوروبية الكبرى بعض قواعد النظام، وهي القواعد التي أرساها مؤتمر فيينا المنعقد في أعقاب حرب أوروبية شنتها إحدى دول النظام الأوروبي «الدولي وقتذاك» وهي فرنسا ضد معظم دول القارة بغرض تغيير أهم قواعد نظام التوافقات الثنائية والمتعددة والأحلاف المؤقتة الذي ساد العلاقات الإمبراطورية في أوروبا قبل الثورة الفرنسية.
وقع خرق متكرر لعدد من قواعد نظام توازن القوى في العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر وبخاصة من جانب ألمانيا، الدولة الصاعدة بسرعة وقوة في النظام الأوروبي وما وراءه. انتهى الأمر، وبعضه يتعلق بالتنافس على إفريقيا، انتهى بحرب عالمية جرّت الولايات المتحدة إلى قلب النظام الدولي ومهدت لاندماج أشمل وأشد فاعلية وأفرزت في النهاية شكلاً مبتكراً لنظام دولي صاغته ووضعت قواعد عمله الولايات المتحدة، وهي القواعد التي نسمعها يومياً تقريباً تتردد على ألسنة أعضاء الفرز الأخير للنخبة السياسية الأمريكية. لا يخفي هذا الجيل من النخبة اعتقاده الصادق بأن هذه القواعد التي وضعتها أمريكا ما هي في الحقيقة سوى فصول مكملة أو بديلة لفصول في القانون الدولي. في عرف هؤلاء أن هذه القواعد التي وضعتها أمريكا لا تلتزمها الصين في علاقاتها بجاراتها الآسيويات وفي تعاملها مع جزر بحري الصين الشرقي والجنوبي.
دول كثيرة تتمرد هذه الأيام على القواعد والأحكام الأمريكية في إعلان صريح عن رفضها الزعم الأمريكي أن قواعدها وأحكامها التي أقامت عليها النظام الدولي الراهن تساوي أو توازي في أهميتها قواعد وأحكام القانون الدولي. الصين ترفض أن تخضع أساليب تعاملها مع احتجاجات الديمقراطيين في هونج كونج أو مع النزعة الانفصالية لشعب الإيجور في مقاطعة سنكيانج لحكم يعتمد على القواعد التي صاغتها الهيمنة الأمريكية عند وضع قواعد النظام الدولي الراهن في أعقاب انتصارها في الحرب العالمية الثانية. تعتقد الصين، بأن الاستمرار في تطبيق قواعد صاغتها أمريكا وصدق عليها المجتمع الدولي في نهاية الحرب العالمية الثانية أمر غير جائز أو مشروع بعد أن تغيرت أوزان الدول العظمى.
أمريكا في حقيقة أمرها، ونخبتها السياسية بالتحديد، لا تنكر وقائع الانحدار بدليل الشعار الذي راح يتداوله آخر أربعة رؤساء للجمهورية الأمريكية، وهو الذي يعني أن هؤلاء الرؤساء معنيون أو يجب أن يكونوا معنيين باستعادة عظمة أمريكا. آخرهم أخذ على عاتقه مهمة «إعادة أمريكا». لا يخفي رؤساء أمريكا، وأعضاء نخبتها في الكونجرس وقيادة الحزبين ومراكز العصف الفكري حقيقة خارجية ماثلة أمام الجميع تقف عقبة أمام هذه العودة، وهي الصين التي تزداد قوة كل يوم وتفلح في تثبيت مكانها ومكانتها وتعمل بالدقة اللازمة نحو احتلال مناصب «مفتاحية» في مؤسسات العمل الدولي المشترك، وهي المؤسسات المسؤولة أولاً وآخراً عن الاعتماد على القواعد الملزمة كما صاغتها أمريكا قبل ثلاثة أرباع القرن.
أكاد أرى في منطقتنا تطوراً قريب الشبه بالتطور الحادث على قمة النظام الدولي. أرى قواعد للعمل العربي المشترك تنهار أو بعبارة أخرى يصرف النخب السياسية العربية النظر عنها. نعرف، أو نتصور أنه عند نشأة النظام الإقليمي العربي جرت صياغة قواعد معينة يحتكم إليها العمل العربي المشترك، وبخاصة عند اتخاذ قرارات أو سياسات مصيرية. جدير بالإشارة أن الحالة التي يمر بها العمل العربي تتدنى بسرعة أكبر من سرعة تدني الحالة في نظام القمة الدولية، فانحدار الولايات المتحدة باعتبارها القائد للنظام الدولي لا يزال متدرجاً ولم يصل إلى النقطة التي تهدد تماسك النظام الدولي عند القمة. تقف الحالة الداخلية، ولا شك، عائقاً أعظم على طريق العودة. لا يفوتنا أن العامل الحاسم في تحديد مستقبل الدور الأمريكي سيكون المدى الذي ستذهب إليه النخبة السياسية في أمريكا نحو خلع الديمقراطية ومنظومة الحقوق كلية أو جزئياً. تقف أيضاً عوائق من نوع مختلف وأهمها، وهو ما يستحق انتباهاً من نوع خاص، هو ما آلت إليه المؤسسة أو المنظومة العسكرية الأمريكية حتى أنها فرضت على النخبة السياسية الاعتراف بهزيمة أمريكا العسكرية في أفغانستان والخروج منها وما قد يتسبب فيه هذا الخروج من تطورات أخرى في معادلات القوة والنفوذ في آسيا.
يكفي أننا صرنا نردد مع الخبراء الصينيين عبارة أن أمريكا لم تعد كما كانت القوة الوحيدة مطلقة الحرية في العمل وممارسة النفوذ أو الهيمنة في المحيط الباسيفيكي وأطرافه في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي وفي أستراليا على وجه الدقة. الآن ينتهي لأول مرة هذا الوضع، الذي امتد لمدة طويلة، وضع الدولة الأقوى على الإطلاق. لا أظن أن أمريكا «ستعود» إلا إذا تغيرت، عسكرياً وأيديولوجيا، في الجوهر كما في الشكل.