بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز
الشرق اليوم– قد يبدو معنى مفهوم الاستهلاك واضحاً بذاته، للوهلة الأولى، بحيث لا يحتاج إلى بيان، وهذا هو الانطباع السّائد عند النّاس حين يتحدّثون عنه، فتجدهم يستبدهون معناهُ الذي وَقَر في نفوسهم؛ وهو المعنى الطّبيعيّ، أي الاستهلاك بما هو معطًى طبيعيّ، عضويّ تدعو إليه الحاجات الحيويّة للكائن الحيّ. والحقّ أنّ الأمر ليس كذلك، دائماً – أو- قُل – إنّه لم يعد كذلك منذ خضع الاستهلاك لتلاعباتٍ اجتماعيّة ولاستثمارٍ وتسخيرٍ من قِبَل مَن تراءى لهم فرصةً للتّكسُّب الفائض، ومغْنماً لتعظيم الأرباح. هكذا صار شأنه في المجتمعات الصّناعيّة، الحديثة والمعاصرة، المحكومة بسلطان النّظام الاقتصاديّ الرّأسماليّ؛ وهكذا بات يرمز إلى حاجاتٍ لم تعُد جميعُها موضوعيّة ولا حيويّة.
إذا ما تركنا جانباً حقيقةَ ارتباطِ بعضِ ذلك الاستهلاك بحاجاتٍ افتراضيّة، غيرِ طبيعيّة، جرى تصنيعُها واستدماجُها ضمن منظومة الحاجات التي تنتظر إشباعاً، فإنّ العلاقةَ الطّرديّة المألوفة بين الاستهلاك والحاجات – وهي التي برّرت هندسةَ اقتصادٍ خاصٍّ مطابِق هو اقتصاد الحاجات- تُخْلي المكان، اليوم، لعلاقة أخرى تقوم مقامَها أو، على الأقلّ، تُزاحمُها هي العلاقة بين الاستهلاك والكماليّات. إنّ انتقال الإنتاج من إنتاج قيمٍ اقتصاديّة تُشبع الحاجات والضّرورات الحيويّة إلى إنتاج سلعٍ كماليّة وتنمية روح إشباعها عند المستهلكين ينعطف بمعنى الاستهلاك انعطافةً كبرى غيرَ مسبوقة في تاريخ ما قبل الرّأسماليّة.
ما من شكّ في أنّ إنتاج الكماليّات ينتمي إلى ذلك النّوع من الإنتاج القيصريّ للحاجات الافتراضيّة. إنّه يصطنعها من دون أن يكون لها أساسٌ أو مبرِّر في الطّبيعة العضويّة. ولكنّ الأهمّ من تصنيعها أنّ قواه تنجح في أن ترسّخ النّظر إليها لا بما هي كماليّات فائضة عن الحاجات (لأنّ من شأن النّظر إليها بما هي هكذا ينزع عنها مبرّر الوجود)، بل بما هي حاجات – وحاجات حيويّة – لا سبيل أمام النّاس إلاّ إشباعها والإقبال على استهلاك معروضاتها. وتقوم لتحقيق غرض تطبيع العلاقة النّفسيّة بهذه الكماليّات مؤسّسات عدّة شديدة الارتباط بوحدات الإنتاج وشركاته. ولا تعوِّل قوى هذا الاقتصاد الكماليّ على «إقناع» المستهلكين – عبر وسائل ترويض النّفوس والأذواق – فحسب، بل تعوِّل – في المقام الأوّل – على المفاعيل النّفسيّة لتعميم سِلَعها وصيرورتها، في بيئات عدّة، من المُقْتَنَيات المألوفة التي يُقبِل عليها المستهلكون إقبالهم على الحاجيات والضّروريّات.
لعلّ حالَ الرّفاه التي تتقلّب فيها مجتمعاتٌ غربيّة عدّة تفسِّر لِمَ استطاع اقتصاد الكماليّات أن يفرض نفسه، جنباً إلى جنبٍ مع اقتصاد الحاجات، بوصفه معطًى اجتماعيّاً عادياً وبديهيّاً؛ إذِ المجتمعاتُ هذه حقّقت من الوفرة الإنتاجيّة ما غطّت به الحاجات والأساسيّات ويمكنها، بالتّالي، أن تترفّه في الاقتناء والاستهلاك. ثمّ إنّ اقتصاداتها القويّة وبرامجَها التّنمويّة الناجحة حقّقت دخولاً قوميّةً وفرديّةً عالية، ومكّنّتِ القدرةَ الشّرائيّة لقسمٍ عريض من المستهلكين من التّكيّف مع تدفُّق السّلع والمعروضات ولإغراءاتها. الأهمّ من ذلك أنّها – أو قُل إنّ بعضَها الأقوى- هي من ينتِج تلك الكماليّات ولا تستوردها إلاّ في الحدود التي يتوازن فيها الاستيراد مع قدرتها التّصديريّة.
مع ذلك يصطدم هذا المعطى بحقيقتين اثنتين لا مجال لتجاهُلهما، ولا لتجاهُل محدوديّة اقتصاد الكماليّات حتّى داخل المجتمعات الغربيّة نفسها:
أولاهما أنّ البلدان المنتجة للسّلع الكماليّة – أي التي تفيض عن الحاجات الحيويّة الأساس- محدودةٌ نسبةً إلى البلدان المنتمية إلى المنظومة الرّأسماليّة الغربيّة؛ فما كُلّ بلدان الغرب منتجةٌ لها، وإن وُجِد في أكثرها إنتاج، فهو عاجز عن منافسة منتوجات البلدان الكبرى و، بالتّالي، معرَّض للخسارة في ضوء أحكام التّجارة العالميّة الحرّة من القيود. لذلك كثيراً ما تكون كلفة اقتصاد الكماليّات باهظة على الكثرة الكاثرة من بلدان الغرب التي تنفق فيها استثمارات كبيرة من دون عوائد مناسبة.
وثانيهما أنّ سعة انتشار المنتوجات والسِّلع الكماليّة حتّى في مجتمعات الغرب الأكثر تصنيعاً لها – مثل الولايات المتّحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكندا وإيطاليا – ليست شاملةً البيئات الاجتماعيّة كافّة. إنّها تمسّ فئات برجوازيّة عليا وبعض الشّرائح العليا من الطّبقة الوسطى؛ وهذه، في مجموعها، تمثّل قلّةً سكّانيّة قد لا تتجاوز خُمس السّكّان. ومع أنّ أرباح الشّركات المتخصّصة في إنتاج هذه الكماليّات عالية جدّاً، إلاّ أنّ الاستثمارات فيها تكون على حساب الاستثمار في القطاع الإنتاجيّ الذي يوفّر السّلع الحيويّة لتغطية الحاجات، ويعود على المجتمعات بأجزل المنافع. والنّتيجة أنّ خللاً في بنية الاقتصاد الوطنيّ يحصل على نحوٍ حادّ ومفارِق. وآيُ ذلك أنّ البلدان التي تَقْوى على بناء اقتصادِ كماليّاتٍ قويّ تعجز، أحياناً، عن توفير موادّ للاستهلاك الغذائيّ لمواطنيها، فيضطرّها ذلك إلى استيرادها من الخارج و، أحياناً، من بلدان الجنوب. هذا دون أن ننسى أنّها هي نفسُها تخلّت، بالتّدريج، عن الاقتصاد الصّناعيّ، الأمر الذي يفسّر لماذا تجتاح أسواقَها المنتوجات الصّناعيّة الصّينيّة والكوريّة الجنوبيّة والهنديّة والبرازيليّة… إلخ.