بقلم: أنس بن فيصل الحجي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– يعيش أغلب حماة البيئة وكل متطرفي التغير المناخي في قواقع، لهذا لا يستطيعون حتى نقاش أبسط الأمور، ويلجؤون إلى الهجوم الشخصي واتهام الطرف الآخر بالعمالة لشركات الوقود الأحفوري. هذه مشكلة كبيرة بسبب قوة اللوبي البيئي في الدول الصناعية. بعبارة أخرى، تقوقعهم يضر بالعالم أجمع، وليس الفئة التي يقصدونها فقط.
من نتائج هذا التقوقع أنهم يظنون أن التكنولوجيا تتحسن في المجالات التي يحبونها فقط، ولا تتحسن في المجالات التي يعادونها، إلا أن الواقع يثبت خطأهم. وإذا حصل تأخر أو خطأ ما في التكنولوجيا التي يروجون لها فإن نظرية المؤامرة جاهزة: شركات النفط العالمية واللوبي النفطي قاما بذلك!
ومن نتائج هذا التقوقع أنهم يظنون أن شركات النفط والغاز غير مهتمة بالأمور البيئية، مع أن نظرة سريعة إلى عقود النفط والغاز خلال الـ50 عاماً الماضية في مختلف أنحاء العالم تشير إلى عكس ذلك.
ومن نتائجه أيضاً أنهم يظنون أن قطاع الأعمال بطبيعته استغلالي، ومن ثم فإنهم يطالبون بسيطرة الحكومة على القطاعات المختلفة، وتبني تخطيط مركزي يكون التغيّر المناخي محوره. ولكن نظرة سريعة إلى الولايات المتحدة، مثلاً، نجد أن كل تمويل الأعمال الخيرية يأتي من القطاع الخاص أو من الضرائب على القطاع الخاص، بما في ذلك التبرعات السخية لمجموعات حماية البيئة! بعبارة أخرى، انحسار القطاع الخاص يؤثر سلباً في أنشطة حماة البيئة!
إلا أن أهم نتيجة لهذا التقوقع أنهم لا يرون في النفط والغاز إلا انبعاثات الكربون، ويتجاهلون الدور التاريخي لهاتين المادتين في حياة البشرية ودورهما الإيجابي في حماية البيئة. فضريبة الكربون التي تفرضها بعض الدول ويروَّج لها عالمياً هي تكلفة لمقابلة الآثار البيئية السيئة للنفط والغاز، ولكن ماذا عن الإيجابيات؟
إذا كان يحق للشركات أن تحسب نوافذ السقف التي تنفذ منها أشعة الشمس على أنها مخفضة للانبعاثات، فمن باب أولى حساب الآثار البيئية السالبة التي كانت ستحدث للعالم لو لم يكن هناك نفط.
الحقيقة أن الفحم، ثم النفط لاحقاً من بعده، أنقذا الحيتان من الانقراض… كما مكنا من زيادة عدد السكان في العالم بشكل ضخم، من دون حدوث مجاعة، أو أزمات قاتلة. فقد أدى تصنيع السماد والمكننة إلى زيادة إنتاجية الحقول بشكل كبير، وهذا بالتالي أدى إلى زيادة المحاصيل، الذي أدى بدوره إلى إطعام البشرية من جهة، والإبقاء على أسعار الأغذية منخفضة مقارنةً بحصول العكس. النفط مكّن من زيادة التجارة العالمية بأضعاف مضاعفة في وقت أقل، وزاد رفاهية البشرية.
في علم الاقتصاد، يُنظر إلى أي فعل على أن له “تأثيرات خارجية”. هذه التأثيرات قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية. التطعيم ضد كورونا له أثر خارجي إيجابي، لأن الشخص يحمي نفسه، ولكنه يسهم أيضاً في حماية الآخرين. هذه الفائدة للآخرين هي الأثر الخارجي للتطعيم. لو قام شخص بزرع ورود جميلة ذات رائحة فواحة أمام منزله. هو يستفيد منها، ولكن الجيران والمارة يستفيدون منها أيضاً. هذا أثر جانبي إيجابي لزراعة الورود.
الآن لننظر إلى العكس، إصرار الشخص على عدم أخذ اللقاح يؤثر سلباً في الآخرين، هذا أثر خارجي سلبي. ولو رمى شخص القمامة أمام منزله، وصارت تؤذي الجيران والمارة بمنظرها ورائحتها، فإن هذا أثر خارجي سلبي.
السياسات الحكومية تهدف إلى التشجيع على الأفعال التي لها آثار خارجية إيجابية، والتقليل من الأفعال التي لها آثار خارجية سلبية. ولكن كيف تقوم بذلك في أرض الواقع؟
تفرض الحكومة ضرائب على الأفعال التي لها آثار خارجية سلبية، أو تحرّم أفعالاً معينة وتجرمها. كما تعطي حوافز ومساعدات على الأفعال التي لها آثار خارجية إيجابية. في الأمثلة السابقة، يتضح أن هذه السياسات ستجبر الناس أو تشجعهم على أخذ اللقاح، وعدم رمي القمامة في الشارع، كما أنها ستشجعهم على زراعة الورود أمام بيوتهم.
المشكلة في النفط والغاز أن لهما آثاراً خارجية إيجابية وسلبية، وهذه الآثار تمتد عبر أجيال، بعضها تراكمي. الكارثة أن حماة البيئة ومتطرفي التغيّر المناخي واليساريين بشكل عام لا يرون إلا الآثار الخارجية السلبية، ويتجاهلون، إما عن جهل، وإما بشكل مقصود، الآثار الإيجابية لهما.
المنطق يحتم النظر إلى الآثار الخارجية الإيجابية والسلبية، وتبني سياسات تعتمد على صافي ذلك، وليس على الجانب السلبي فقط. وتزداد الأمور تعقيداً عند النظر إلى الصورة الأكبر التي تتضمن دولاً وعملات أخرى. مثلاً، فرض ضرائب على الوقود الأحفوري سيخفف من انبعاثات الكربون، ولكنه سيخفض إنتاج الوقود الأحفوري داخل البلد ويزيد اعتماد البلد على واردات الطاقة، وهذا يتنافى مع مبادئ الأمن القومي. ومن ناحية أخرى، قد يسبب تضخماً وتباطؤاً في النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة. المشكلة أن هذه الآثار الخارجية السلبية لم تُحسب في قرار فرض ضرائب الكربون، الذي هدف أصلاً إلى تخفيض الآثار السلبية لحرق النفط والغاز.
عندما عانت كاليفورنيا انقطاع الكهرباء في صيف العام الماضي، وبدا واضحاً أنها كانت مقبلة على كارثة، تدخلت الحكومة الفيدرالية، وأُرسلت سفن للبحرية الأميركية التي تحمل مولدات ديزل ضخمة، وتم تفادي الكارثة. لكن النفاق البيئي أبَى إلا أن يظهر أنيابه: حُسبت انبعاثات الكربون لهذه المولدات. ولم يُحسب الأثر الإيجابي لهذه المولدات، التي أنقذت بعض الناس من الموت، وساعدت المرضى في المستشفيات على التنفس، كما منعت استخدام الفحم، الذي كان سيصدر انبعاثات أعلى بكثير.
لقد نجحت وزارات الطاقة والبيئة في الدول النفطية في مجموعة العشرين في وضع الفحم في الواجهة بدلاً من النفط، وهذا إنجار تاريخي مقارنة بالنظرة الأوروبية للنفط خلال الـ20 عاماً الماضية. وها نحن أولاء على أبواب انعقاد قمة المناخ 26، ومن الواضح أن الوقت أصبح مناسباً للتركيز على صافي الآثار الخارجية للنفط لا الآثار السلبية فقط.