بقلم: حنا صالح – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – على مسافة يومين من الرابع من أغسطس (آب)، يسود الغليان الشعبي لبنان، طلباً لإسقاط الحصانات التي تتلطى خلفها المنظومة السياسية، في محاولة سافرة للالتفاف على جريمة الحرب ضد بيروت. جريمة التفجير الهيولي للمرفأ ومعه أجزاء كبيرة من العاصمة، الذي وُصِفَ بـ «بيروتشيما»، وكان ثالث أكبر تفجير عرفه العالم، والأول كتفجير كيماوي غير نووي على المستوى العالمي.
الاستعدادات الشبابية والشعبية واسعة ليوم وطني يرفع راية المطالبة بالحقيقة والعدالة، وحماية المسار القضائي، الذي رسمته الخطوات القضائية الشجاعة التي أعلنها قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار، الذي اعتمد معيارَ الادعاء بجرم جناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، على كبار المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين والأمنيين، الذين تأكد القضاء أنهم منذ العام 2014 تسلموا تقاريرَ أمنية فيها تأكيد أن شحنة «نيترات الأمونيوم» التي تم تخزينها في العنبر «رقم 12» في مرفأ بيروت، يمكن أن تدمر العاصمة إن تفجرت! ورغم ذلك تنكروا لواجبهم ولم يتحملوا المسؤولية الملقاة على عاتقهم بحماية أرواح المواطنين وحماية العاصمة من الدمار.
يقابل هذه الدعوات، استعدادات من نوعٍ آخر، تقف خلفها جهات رسمية متسلطة تريد الاستيلاء على الرابع من أغسطس، وتحويل ما يرمز إليه هذا اليوم إلى مجرد ذكرى، فكان الإعلان الحكومي عن يوم الحداد، إلى الدعوة لإقامة صلاة فوق مسرح الجريمة، مع تقليد «لقمة رحمة» عن أرواح الضحايا الـ218، إلى نشاطات فنية وأكاديمية ومسابقات، واحتفاء استفزازي رسمي بإقامة نصب من الخردة في المكان، أي فوق أشلاء الضحايا وصفه المحتجون باحتفال هو أشبه برايات «داعش» التي لم ترفع إلاّ فوق الركام!
المنحى القضائي المحتضن شعبياً، أثار غيظ كل الطبقة السياسية، التي أكدت خطواتها الالتفافية، حجم الهلع الذي انتابها، وهي المرتاحة إلى مصادرتها استقلالية القضاء، المفترض دستورياً أنه سلطة مستقلة، وتحكمها بالتشكيلات القضائية، ما عطّل صدور الأحكام فامتلأت السجون بالموقوفين على ذمة التحقيق. والأخطر، أن الجرائم الكبرى، منذ مقتل نائب صيدا معروف سعد في فبراير (شباط) العام 1975، قُيدت ضد مجهول فكانت سياسة الإفلات من العقاب! فما الذي حدث حتى يتجرأ الرئيس طارق بيطار، بعد الرئيس المبعد تعسفاً فادي صوان، على الادعاء بالجناية على كل المنظومة السياسية وذراعها العسكرية – الأمنية!
اشتدت المواجهة حول الطلب القضائي إسقاط الحصانة عن النواب نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل، الذين اشتبه بأنهم تدخلوا أو كان لهم دور ما في الجريمة الكبرى ضد الإنسانية يوم كانوا على التوالي وزراء الداخلية والأشغال والمال. كذلك الطلب القضائي منح القاضي بيطار الأُذونات الضرورية لملاحقة اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام، واللواء طوني صليبا مدير عام أمن الدولة وقائد الجيش السابق جان قهوجي ومروحة واسعة من كبار العسكريين! وشمل الادعاء أيضاً حسان دياب رئيس حكومة تصريف الأعمال والوزير السابق يوسف فنيانوس، وأكدت معلومات تقاطعت اعتزام بيطار الادعاء على وجبة ثانية تشمل رؤساء حكومات (تمام سلام وسعد الحريري) وعدد من الوزراء ممن كانوا في موقع القرار ما بين العام 2014 والرابع من أغسطس 2020!
تمثل رد البرلمان بتوقيع عريضة نيابية تدعو إلى إحالة المدعى عليهم إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهو مجلس موجود على الورق في القانون لكنه وهمي غير موجود في الواقع، لتدور معركة ضد عريضة «العار» التي وقعها «نواب النيترات»، مع دعوات لإقصائهم عن الحياة السياسية، فسارع خمسة من الموقعين لسحب تواقيعهم فسقطت العريضة واقعياً، لكن محاولات الالتفاف لم تتوقف وكان أبرزها الدعوة التي أطلقها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لتعليق كل الحصانات من رئيس الجمهورية حتى آخر مسؤول لتحقيق المساواة أمام القانون!
في الشكل تبدو خطوة الحريري إيجابية، وكان يمكن أن يكون هذا المشروع ممتازاً لو تزامن أقله مع طلب القاضي صوان في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي رفع الحصانات. لكن يومها انبرى الحريري للدفاع عما سماه موقع رئاسة الحكومة ليضع فوقه حصانة طائفية تسمو على حصانة الدم المهدور وحصانة الأرواح التي زُهقت غدراً! أما اليوم وقد بلغ التحقيق العدلي حد الادعاء بجناية القتل، فيبدو أن الهدف الحقيقي هدر الوقت لأن الكل في لبنان يعرف أن إقراره من باب المستحيلات لأنه يتطلب ثلثي أعضاء البرلمان، ليبدو الهدف الحقيقي الإبقاء على الحصانات والتلطي خلفها وبالتالي محاصرة التحقيق العدلي وإسقاطه بعد وضعه أمام حائطٍ مسدود.
الرهان على مرور الزمن لمصادرة الحقيقة وإسقاط العدالة أمرٌ تنبه له الناس، الذين كثيراً منهم توقف الزمن عند الساعة السادسة و7 دقائق من يوم 4 أغسطس 2020، لأنه بعد سنة كاملة لم يتمكن كثيرون من استعادة حياتهم. مئات ألوف من اللبنانيين عالقون في ذلك التاريخ، افتقدوا الأمان لأن الموت الذي ضرب المرفأ ومحيطه، اقتحم البيوت وخطف أحبة ولم يعد بالنسبة لهم من مكان آمن، وباب الإنقاذ الوحيد يكمن في المحاسبة وتحقيق العدالة، وبات الشعار الذي يتردد: «يا نحن يا هم»! هنا برز موقف رئيس الجمهورية ميشال عون الذي استبق علانية الطلب القضائي ليعلن بعد تأخير سنة كاملة أنه مستعد للإدلاء بإفادته أمام قاضي التحقيق عندما يرغب الأخير!
بمعزل عن رغبات القصر وأهدافه، فالقضية باتت كرة ثلج، والأكيد أن هذا المنحى القضائي قد يفتح الباب أمام تغيير سياسي كبير لكن بين هذا الاحتمال وهو حقيقي لو توفر له ميزان القوى الداخلي، والوضع الراهن حيث تدور الشبهة حول دور «حزب الله» في كل هذه العملية، وربما كان الجهة التي انصاع لها كل المسؤولين، فإن البلد مرشح لضغوطات نوعية للعرقلة، بهدف حفظ التحقيق وربما افتعال صدامات واللجوء إلى التجييش الطائفي، لأخذ البلد من مكانٍ إلى آخر، وما الأحداث الأمنية التي جرت مساء أمس في محلة خلدة المدخل الجنوبي لبيروت إلاّ حلقة بهذا الاتجاه.