بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- في المشهد السياسي التونسي المأزوم لا توجد خيارات سهلة، فالأولويات تتزاحم والمواقيت تضغط والضغوط السياسية ماثلة.
التغيير يفرض منطقه وضروراته على بلد تكاد تخنقه أزماته السياسية والاجتماعية والصحية والفساد المستشري يضرب بنيته، غير أن هناك قيوداً داخلية ودولية لا يمكن تجاهلها على حدود الحركة وطبيعتها.
إذا ما فتحت جبهات الإصلاح كلها بتوقيت واحد، فإن ارتباك الخطى وارد بقوة في لحظة تحول حرجة.
وإذا ما عادت البيئة السياسية إلى ما كانت عليه بعد انقضاء أجال “الإجراءات الرئاسية الاستثنائية”، فإن أحداً لا يمكنه توقع ما قد يحدث تالياً من صدامات وانفجارات تضرب في سلامة البلد وتماسكه وثقته في مستقبله.
هكذا تطرح المعادلات التونسية الصعبة سؤالها الرئيسي: كيف يمكن أن يمضي التغيير إلى أبعد نقطة ممكنة دون اهتزازات في الاستقرار العام، أو انجراف لفوضى لا يتحملها البلد المنهك؟
لم يكن ممكناً إدارة الشأن العام بنظام سياسي مشوه وسلطة تنفيذية لها رأسان متطاحنان، رئيس جمهورية شبه معزول في قصر “قرطاج”.. ورئيس حكومة خاضع لتوجيهات رئيس البرلمان وحركة “النهضة” التي يتزعمها.
إذا لم يحدث إصلاح دستوري جوهري في بنية السلطة، فإن الأجواء المسمومة ستعيد إنتاج نفسها من جديد بنفس الوجوه، أو بوجوه أخرى.
الشرعية الشعبية وفرت الغطاء السياسي بالقبول والتفهم ومشاعر الابتهاج العامة لقرارات الرئيس قيس سعيد بغض النظر عن مدى اتساقها مع نص الدستور، الذي استندت إليه.
إذا لم تكن هناك خارطة طريق تتضمن تعديلات جوهرية على النظامين السياسي والانتخابي تعيد توزيع السلطة بالتوافق العام وفق القيم الدستورية الحديثة وضمان الحريات العامة قبل انقضاء فترة “الإجراءات الاستثنائية” الموقوتة بشهر، فإن الإخفاق بتبعاته الثقيلة قد يكون محتماً.
كان مثيراً للالتفات أن الاتحاد التونسي للشغل طرح على نفسه وضع خارطة طريق للاستئناس بها.
هذه ليست مهمة الاتحادات النقابية، عمالية أو مهنية، بقدر ما هي وظيفة القوى والتجمعات السياسية، التي بدت في أحوال ترنح وانكشاف.
الحديث المتواتر عن ضرورة تشكيل “حكومة كفاءات” لإنقاذ البلد فيه اعتراف كامل بفشل الأحزاب والحياة السياسية، فمثل هذه الحكومات لا تنشأ إلا في أوضاع أزمات، أو مراحل انتقال.
الإصلاح السياسي والدستوري أولويته مؤكدة، لكنه ليس وحده، فهناك ملفات أخرى تزاحمه نفس درجة الأولوية وتحظى بشعبية لافتة، خاصة ملف الفساد المستشري في بنية الدولة والنخب السياسية الحاكمة.
ظلال السياسة حاضرة في فتح التحقيقات القضائية بقضايا فساد، أو تلقي تمويلات أجنبية، أو سوء استخدام السلطة التشريعية للحصول على منافع خاصة.
إذا ما ثبتت الاتهامات بحق حركة “النهضة” وحليفها البرلماني “قلب تونس” بتلقي تمويلات أجنبية أثناء الانتخابات النيابية، فإن سيناريو إلغاء نتائج الانتخابات النيابية وحل البرلمان ليس مستبعداً.
وفق نفس السيناريو، فإن أية انتخابات نيابية جديدة ستقوض الوزن السياسي لحركة “النهضة” إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة، إذا لم تحل الحركة نفسها بقرار قضائي.
لهذا السبب صرح زعيمها الغنوشي، استعداد حركة “النهضة” لتقديم أية تنازلات “مقابل استعادة الديمقراطية”.
قضيته الحقيقية ليست الديمقراطية بقدر مصير الحركة نفسها باليقين، فإن حركة “النهضة” باعتبارها سلطة الحكم، أو الشريك الرئيسي فيه منذ إطاحة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، تتحمل المسؤولية الأولى عن أية أخطار تتهدد الديمقراطية الناشئة بإشاعة أجواء الكراهية والفزع العام والإفراط بالاستئثار بالسلطة وجوائزها.
مشاهد الأزمة تكاد تتلخص في رجلين، رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، تقاطع الرجلان لأول مرة في الانتخابات الرئاسية قبل عام ونصف العام. الغنوشي رشح نائبه، لكنه حل ثالثاً.
في جولة الإعادة مال إلى تزكية “الرجل النظيف”، الذي يكاد لا يعرفه أحد، في مواجهة زعيم “قلب تونس” “نبيل القروي” الذي كان محتجزاً خلف القضبان بتهم فساد.
لم يكن ذلك الرئيس رجلاً يمكن السيطرة عليه كما اعتقد الغنوشي. تحالف مع “القروي” في مواجهته ببراجماتية زائدة دون اعتبار أن حركته وصفته مراراً وتكراراً ب”الفساد” حتى يصبح ممكنا أن يكون رئيساً للبرلمان ومركز السلطة الحقيقي في البلد.
هناك ملفات أخرى مرشحة أن تفتح أخطرها قضية الاغتيالات السياسية، التي تحوم شكوك قوية حول تورط شخصيات محسوبة على “النهضة”، في اغتيال القياديين البارزين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
ملف الاغتيالات يزكي سيناريو حل الحركة إذا ما أثبتت التحقيقات تورط “النهضة” في إنشاء جهاز سري عسكري.
تونس إلى أين من هنا؟
ما هو ملح من إصلاح سياسي ودستوري يوفر إطاراً عاماً صحيحاً وديمقراطياً لتعقب الفساد في مراكزه وحساب المتورطين في الاغتيالات.
كل شيء معلق الآن على خارطة طريق تجد إجابات مقنعة ومتماسكة تضمن قواعد العدالة والحريات العامة لتحديات الدخول إلى عصر جديد.